كنت في مصر
عدنان أبوزيد
أعود من مصر كما يعود الغريق من أعماق النيل، محمّلاً بسرّ الحياة الذي نسيته الشعوب الحديثة.
لا أدّعي أنني فهمتُ مصر كلها في أيام معدودة، لكنني أقسم أنني شممتُ رائحتها الحقيقية، تلك التي لا تُخفى خلف واجهات الفنادق الفاخرة ولا تُزيّف في جولات السياح المنظمة.
هذه زيارتي الثانية، والأولى كانت مع مجموعة من الهولنديين الذين يعرفون العالم كما يعرف التاجر بضاعته، فخرجوا من مصر وقد صُعقوا، وقالوا لي: وجدنا هنا روح الشرق التي طالما بحثنا عنها في الهند وتركيا والمغرب، فلم نجدها إلا في القاهرة.
المواطن المصري متواضع بالمعايير المادية، لكنه غنيّ بما لا يُقاس. يستيقظ صباحاً دون أن يسأل: كم سأجني اليوم؟، بل يسأل: كيف سأعيش اليوم؟، فيعيش.
يضحك من قلبه، يُطعمك من لقمته، كأنك أخوه الذي طال غيابه.
لا يتكلّف، لا يتصنّع، لا يخجل من بساطته، لأنه يعرف أن الكرامة ليست في الثروة بل في النفس.
تمشي في شوارع حي السيدة زينب أو الدرب الأحمر فتشعر أن التاريخ ليس في المتاحف، بل يمشي بجلبابه الأبيض ويشرب الشاي في مقهى على الرصيف.
البيوت متعانقة بكثافة، لكن الهواء فيه شيء لا تجده في أجمل مدن أوروبا: إحساس أن الحياة ما زالت تُعاش هنا بكاملها، بفرحها وهمّها وفوضاها.
الهولنديون الذين كانوا معي كانوا يضحكون في البداية من (الزحمة)، ثم صمتوا.
رأيتهم يجلسون في مقهى شعبي على كرسي قديم، يدخنون الشيشة بيد مرتجفة من الدهشة، ويقول أحدهم: هؤلاء الناس يعيشون بلا خوف من الغد، ونحن في بلادنا نملك كل شيء إلا هذا الشعور.
في الأهرامات لم أجد حراساً متجهمين، وجدتُ رجالاً بملابس بسيطة يأخذون يدك كما يأخذ الأخ أخاه، ويحكون لك عن خوفو وخفرع وكأنهم جيرانهم بالأمس.
في خان الخليلي يبيعونك الكتاب بضحكة لا تُقاوم، وفي المقهى يجبرونك على فنجان شاي ثقيل بالنعناع حتى لو كنتَ عابر سبيل.
حتى الكلاب، يا الله، في شوارع القاهرة لا تنبح على الغريب، بل تمشي بجانبك كأنها تعرف أنك ضيف.
مصر ليست بلداً، بل حالة نفسية.
حالة من التوازن الخارق بين الانفتاح والأصالة، بين الفرح والكفاح، بين الإيمان والواقعية العميقة.
شعبٌ صقلته القرون والكوارث والانتصارات فلم يعد يخاف الموت، ويؤمن أن الله سيأتيه برزقه حين يفتح عينيه، فيفتحهما بابتسامة.
في زمن انهارت فيه الثقافة العربية إلى مستنقع الرداءة والتقليد، ما زالت مصر تلد المطربين والكتاب والرسامين كما كانت تلدهم منذ أم كلثوم وسيد درويش ونجيب محفوظ.
ما زالت القاهرة تحتفظ بطبقاتها التاريخية كلها: الفرعونية والقبطية والإسلامية والعثمانية والحديثة، وتضعهم جميعاً في طبق واحد يأكل منه الجميع دون أن يسأل أحد: من أي دين أنت؟.
لقد سألتُ سائق تاكسي عجوز: كيف تصمدون وسط كل هذا الذي يحدث حولكم؟، فنظر إليّ بثقة هادئة وقال: “يا ابني، إحنا عايزين بس الأمان، والباقي ربنا هيفرجه”.
خرجتُ من التاكسي وأنا أبكي في داخلي، لأنني أدركتُ أن هذه ليست بساطة، بل حكمةٌ تفوق كل الفلسفات التي قرأتها في الكتب.
مصر ليست جنة، لكنها المكان الوحيد الذي شعرتُ فيه أن الإنسان قادر على أن يكون إنساناً حتى لو جُرد من كل شيء، ما عدا كرامته وقلبه.
عدتُ من مصر وأنا أحمل في صدري شيئاً لا أستطيع تفسيره، شيئاً يشبه الحنين إلى بيت لم أولد فيه، ويشبه اليقين بأن الحياة، مهما قست، تستحق أن تُعاش بضحكة مصرية صافية.