إقتصاد مرتهن وأسواق مستباحة.. العراق بين النفط والميليشيات
كفاح محمود
من يتجوّل اليوم في أي سوق عراقية، يكتشف سريعًا أن معظم ما على الرفوف ليس من صنع محلي؛ من الخضار والفاكهة إلى الأدوية والملابس، وحتى أبسط السلع المنزلية، تأتي الغالبية من إيران وتركيا، هذا المشهد لم يكن مألوفًا قبل عقدين، حين كان للعراق قاعدة إنتاجية تغطي جانبًا مهمًا من احتياجاته، لكن سلسلة من القرارات والظروف بعد 2003 جعلت الصناعة الوطنية تتلاشى، لتتحول البلاد إلى مستهلك دائم لما ينتجه الجوار، ففي 2024 بلغت صادرات تركيا إلى العراق أكثر من 13 مليار دولار، فيما سجلت إيران 2.8 مليار دولار صادرات في خمسة أشهر فقط من عام 2025، من دون احتساب الغاز والطاقة.، النتيجة أن موائد العراقيين باتت امتدادًا مباشرًا لمصانع الجارتين، فيما تلاشت قدرة الدولة على إنتاج غذائها ودوائها، وتراجع أي حديث جدي عن أمن غذائي أو دوائي إلى مجرد شعارات موسمية.
الأخطر من الاستيراد وحده، هو عسكرة الاقتصاد وارتهان قراراته لفصائل مسلحة وشبكات مصالح طفيلية تحوّلت إلى دولة موازية داخل الدولة. فمئات الفصائل والواجهات المرتبطة بها تستحوذ على ما يقارب 3 مليارات دولار سنويًّا من الموازنة، إضافة إلى مليارات أخرى عبر الإتاوات والضرائب غير الشرعية في المنافذ الحدودية والطرق الخارجية، وقد امتدت سيطرتها إلى ميناء البصرة وتجارة السلاح، فضلًا عن اعترافات رسمية عن عمليات تهريب منظم للنفط الإيراني بأسماء عراقية تدر ملايين الدولارات لحسابات ضيقة، ضمن هذا السياق، يصبح مفهومًا لماذا تُستَهدف حقول الغاز في كوردستان، وخصوصًا مشاريع الغاز الوطني التي تسعى لتقليل اعتماد العراق على الاستيراد؛ فكل متر مكعب من الغاز المنتج محليًّا يهدد أرباح شبكات الاستيراد والتهريب، ويقلّص هامش ابتزاز المواطنين عبر العتمة وانقطاع الكهرباء. لهذا لم تعد عمليات استهداف حقول الغاز في إقليم كوردستان مجرد رسائل سياسية عابرة، بل محاولة متكررة لتدمير مشروع اقتصادي مختلف، يسعى لبناء أمن طاقة وطني حقيقي، ولمنع قيام نموذج ناجح يُحرج من يحكم محافظات الوسط والجنوب، فالميليشيات والفصائل المتضررة من إنتاج الغاز الوطني تجد في قصف حقول كوردستان وسيلة مزدوجة: من جهة تعرقل مشروعًا يوفّر الكهرباء الدائمة ويعزز ازدهار الإقليم، ومن جهة أخرى تغطي على فضائح السرقات ونهب المال العام والبؤس الخدمي الذي تعيشه المدن التي يفترض أنها تحت إدارتها، حيث الفقر، والبطالة، وانهيار البنى التحتية، رغم مليارات الدولارات التي مرت من هناك ولم تترك أثرًا سوى مزيد من الخراب.
ارقام صادمة
هكذا أصبح بلد يمتلك رابع أكبر احتياطي نفطي في العالم يرزح تحت أرقام صادمة: نحو 17.5 بالمئة من السكان تحت خط الفقر، وقرابة 32 بالمئة بطالة بين الشباب، ومرتبة متقدمة عالميًّا في مؤشرات الفساد، في المقابل، قدّم إقليم كوردستان نموذجًا مغايرًا؛ أطلق مشروع «روناكی» لتأمين الكهرباء 24 ساعة بحلول 2026 معتمدًا بدرجة متزايدة على الغاز المنتج محليًّا، أعاد تأهيل سدي دوكان ودربندخان، وشقّ طرقًا حديثة مثل شارع 120 متراً الدائري و150 متراً في أربيل، فضلًا عن توسعة شبكة المستشفيات التي تجاوزت 150 مستشفى، إلى جانب مشاريع في السدود والسايلوات والمزارع وحقول الأبقار والأغنام والدواجن وصناعة الغذاء، النتيجة أن معدلات الفقر في الإقليم انخفضت إلى نحو 8-9بالمئة، أقل من نصف المعدل الوطني، رغم الضغوط المالية، ومنع تصدير منتوجاته الزراعية والصناعية الى بقية انحاء العراق، واستهداف منشآته الغازية بالصواريخ والطائرات المسيّرة. المقارنة لا تحتاج إلى كثير تعليق: بينما استنزفت الميليشيات موارد الوسط والجنوب في رواتب فضائية، وعقود وهمية، وتجارات موازية، استثمرت حكومة الإقليم مواردها المحدودة في الخدمات الأساسية والبنى التحتية والطاقة، ساعية إلى بناء نموذج مؤسساتي قابل للتطوير، وبينما غرق العراق الاتحادي في الاستيراد والفساد واقتصاد الظل، سعى إقليم كوردستان إلى توسيع مساحة الإنتاج المحلي في الكهرباء والغذاء والدواء، رغم كل أنواع الحصار المالي والسياسي والأمني.
ندرة المال
والخلاصة أن معركة العراق اليوم ليست مع ندرة المال، بل مع سوء الإدارة وسطوة الميليشيات التي ترى في كل مشروع وطني منتج - من حقول الغاز في كوردستان إلى أي صناعة حقيقية - خطرًا على منظومة نفوذها وربحها السريع، من دون إصلاح جذري يواجه هذه السطوة، ويعيد الاعتبار للصناعة والزراعة والطاقة الوطنية، سيبقى البلد رهينة أسواق الجوار وصواريخ اقتصاد الظل، مهما تضاعفت عائداته النفطية.