الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
القانون لايباع

بواسطة azzaman

القانون لايباع

حاكم الشمري

 

بدأت الحكاية عندما سافر أحد الأصدقاء إلى ألمانيا للمشاركة في دورة تدريبية، وهناك استأجر سيارة ليتجّه مع فتاة تعرّف عليها حديثًا إلى أحد المنتجعات. وفي الطريق، وبين الشوارع المنظمة والانسيابية العالية، قاد مركبته في أحد المقاطع بالاتجاه المعاكس دون أن ينتبه. لم يوقفه أحد ولم يسمع صوت صافرة شرطي، لكنه فوجئ في اليوم التالي برسالة رسمية تطلب حضوره أمام القضاء بسبب مخالفة مرورية رصدتها كاميرات الطريق. وقف أمام القاضي مؤكدًا أنه لم يرتكب أي خطأ، فطلب القاضي إحضار الفتاة التي كانت برفقته للاستماع إلى شهادتها. وعندما أكدت أنها شاهدت المخالفة بوضوح، دفع الرجل الغرامة وخرج متسائلًا عن سبب شهادتها ضده. فأجابته بجملة ظلّت ترنّ في أذنه طويلًا: “أنا أملك الحرية الكاملة لبيع جسدي، لكن لا يمكن أن أبيع قانون ألمانيا”. هذه القصة ليست مجرد موقف عابر، بل هي اختصار لثقافة احترام القانون في المجتمعات التي جعلت الانضباط جزءًا من هويتها. وبقدر ما تبدو الحكاية بعيدة، فإنها تُلقي بظلّها على النقاش الدائر اليوم في بغداد بشأن الغرامات المرورية الأخيرة، التي تحوّلت إلى حديث يومي للسائقين، بين من يراها ضرورة للحد من الفوضى، وبين من يعتبرها عبئًا ثقيلًا فُرض بلا مراعاة لواقع الناس الاقتصادي.

خطوة حضارية

لا جدال في أن وجود نظام غرامات واضح ومختص بالكاميرات خطوة حضارية يحتاجها أي بلد يسعى إلى تخفيف الحوادث وإنهاء الفوضى المرورية. فالعراق شهد طوال سنوات ارتفاعًا كبيرًا في نسب الحوادث، وتحوّلت بعض التقاطعات إلى ساحات خطرة بسبب الفوضى والسرعة وضعف الالتزام. لذلك جاء اعتماد الكاميرات ليخفّف الاحتكاك بين السائق والشرطي ويقلل فرص المجادلة والفساد ويجعل المخالفات تُسجّل بدقة وموضوعية. ومع ذلك، فإن المشكلة الأساسية ليست في وجود الغرامة، بل في حجمها، إذ بلغ بعضها مستويات تفوق قدرة كثير من المواطنين، خصوصًا سائقي الأجرة والموظفين وذوي الدخل المحدود. كما أن بعض التقاطعات تعاني من رداءة التخطيط وضعف الإشارات أو غياب الوضوح، ما يجعل السائق يقع في المخالفة دون قصد، ثم تُفرض عليه غرامة عالية لا تتناسب مع الظروف.

ورغم التطور الواضح في اعتماد التكنولوجيا، إلا أن الشوارع ما زالت تشهد مشكلات تتعلق بسوء التنظيم، وتداخل المسارات، وتكرار العطل في الإشارات المرورية، وغياب حملات التوعية، وهي عوامل تجعل النظام غير متوازن حين يركز على العقوبة دون إصلاح البيئة المرورية نفسها. فالغرامة ليست الحل الوحيد؛ بل جزء من منظومة تبدأ من الشارع وتنتهي بثقافة المواطن.

إن الغرامات المرورية الحالية يمكن أن تكون خطوة نحو نظام أفضل، لكنها تحتاج إلى مراجعة تحقّق العدالة قبل الردع، وتأخذ بنظر الاعتبار إمكانيات الناس وظروف الطريق وطبيعة التخطيط. فالدول التي سبقتنا لم تعتمد على القسوة وحدها، بل على الوضوح والتنظيم وحملات التوعية واحترام القانون الذي لا يُباع ولا يُشترى. وهذا هو جوهر الحكاية الألمانية: القانون قيمة. وإذا أراد العراق بناء نظام مروري يحترمه الجميع، فلابد أن يوازن بين الصرامة والإنصاف، وبين الردع والتفهّم، وأن يجعل الطريق مكانًا آمنًا للجميع، لا ساحة غرامات تثقل كاهل المواطن.

 


مشاهدات 81
الكاتب حاكم الشمري
أضيف 2025/11/26 - 3:00 PM
آخر تحديث 2025/11/27 - 5:54 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 185 الشهر 19689 الكلي 12681192
الوقت الآن
الخميس 2025/11/27 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير