الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الرواية بعد الحرب: كيف تغيّر مفهوم البطولة والإنسان في الأدب العربي؟


الرواية بعد الحرب: كيف تغيّر مفهوم البطولة والإنسان في الأدب العربي؟

 أورنيلا سكر

 

لم تكن الحرب في تاريخ الإنسان حدثًا ينتهي بتوقّف إطلاق النار، بل زلزالًا يعيد صياغة اللغة، ويهزّ ضمير السرد، ويجعل الرواية مرآة مكسورة تتأمّل ذاتها في رماد العالم. منذ أن دوّى الرصاص العربي الأول في الأزمنة الحديثة، تغيّر كل شيء: المعنى، البطولة، والإنسان نفسه الذي صار أكثر هشاشة، أكثر وعيًا، وأكثر غربة في ذاته.

لقد كانت الرواية العربية قبل الحروب الكبرى  من نكبة فلسطين إلى الحرب اللبنانية، ومن غزو العراق إلى انفجار سوريا واليمن  تتغنّى بالبطل الجمعي، بالثائر، بالمنقذ، وبالمدينة التي تحلم بالحرية. كانت البطولة فعلًا مقدسًا، والبطـل شجرةً من نورٍ تسقيها الكلمات. أما اليوم، فالرواية العربية لم تعد تبحث عن البطل، بل عن الإنسان الذي فقد معنى البطولة وسط فوضى الرماد.

في روايات حنان الشيخ وإلياس خوري وربيع جابر مثلًا، نرى الحرب وقد تحوّلت إلى ذاكرةٍ مشقوقة، يتسلّل منها الإنسان العاري من البطولة، المبتور من المجد، الباحث فقط عن معنى البقاء. فـ«سُهيل» في بوّابة الشمس ليس بطلاً أسطوريًا، بل رجل يحلم أن ينام بلا صوت انفجار، و«حسن» في تغريبة لبنانية ليس منقذًا، بل ضائع بين ركام وطنٍ لا يصدّق نفسه.

هنا، البطولة لم تعد في رفع السيف، بل في القدرة على النجاة من الخوف، في التمسّك بإنسانيةٍ تتناثر أشلاؤها مع كل قذيفة. الرواية صارت مساحةً للبوح، للانكسار، وللتطهّر من الوهم القديم بأن البطولة تصنع التاريخ. فالتاريخ اليوم تصنعه الذاكرة الجريحة، لا الملاحم.

الرواية بعد الحرب هي رواية الندبة. ليست رواية النصر، بل رواية الجرح المفتوح. فـ«سمر يزبك» في لها مرايا تكتب بلغةٍ تنزف، و«خليل صويلح» يجعل من دمشق ذاكرة مصلوبة، و«علاء الأسواني» يحوّل المقهى إلى ساحةٍ للخذلان الجماعي.
حتى اللغة نفسها تغيّرت: لم تعد تنشد المجد، بل تبحث عن البقاء. صارت الجملة الروائية خافتة، مشروخة، كأنها تخجل من بلاغتها أمام ركام البيوت.

الحرب، بهذا المعنى، لم تدمّر الإنسان فحسب، بل هشّمت البلاغة القديمة. جعلت الرواية تبحث عن لغةٍ جديدة، صادقة، لا تزيّن الجرح بل تصف رائحته. صارت الرواية تكتب بالهمس، بالحزن، بالاعتراف، بعدما كانت تصرخ بالأمل واليقين.

في زمن ما بعد الحرب، تغيّرت البطولة من الخارج إلى الداخل؛ لم تعد في ميادين القتال، بل في قدرة الفرد على مواجهة ذاته. البطل المعاصر ليس من ينتصر، بل من يعترف بانكساره، ويظلّ قادرًا على الحبّ وسط العدم. تلك هي البطولة الجديدة التي تسكن روايات ما بعد الحرب: بطولة البقاء الإنساني في وجه العبث.

إنّ الرواية العربية اليوم في أعمال مثل سيدات زحل لـ لطفية الدليمي، أو طيور الهوليداي إن لـ إبراهيم نصر الله  تستعيد الإنسان لا البطل، الحياة لا النصر، الحلم لا الشعارات. لقد تخلّت الرواية عن خطاب البطولة الجماعية لتكتب أنين الفرد.
صارت الرواية تعترف أنّنا لم ننتصر قط، وأنّ البطولة الحقيقية هي أن نستطيع أن نحكي، أن نحفظ الذاكرة من الموت، أن نكتب كي لا يُمحى الوجع من اللغة.

وهكذا، من تحت ركام المدن، تنهض الرواية العربية كطائر الفينيق بلا أجنحة، تحلّق بالحروف وحدها، تسأل لا تجيب، تبكي لا تنتصر، لكنها تظلّ الفعل الأخير للإنسان حين تنكسر كلّ الأفعال.

في النهاية، لا يمكن للحرب أن تقتل الأدب، لكنها تغيّر قلبه.
تجعله أكثر وجعًا، وأكثر صدقًا، وأكثر إنسانية.
فحين يسقط البطل،
يولد الكاتب.
وحين تموت البطولة،
تبدأ الرواية.

 

 

صحفية وكاتبة لبنانية

 


مشاهدات 619
الكاتب  أورنيلا سكر
أضيف 2025/11/04 - 3:15 PM
آخر تحديث 2025/12/21 - 9:11 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 305 الشهر 15416 الكلي 12999321
الوقت الآن
الأحد 2025/12/21 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير