إحتضنوا أرواح المرضى
نوال الجراح
رغم مرور أربع سنوات ما زلتُ أتذكّر علامات الدَّهشة والصّدمة التي بدتْ واضحة على وجهها رغم جلوسها بعيداً عني، وأنا أنتظر حسب تعليمات السكرتير للدُّخول على طبيب الأورام في [null]أحد عيادات مدينة الموصل للإستفسار عن حالة إحدى صديقاتي المُقرَّبات التي شافاها الله منذُ سنوات.
نظرتُ لها، علمتُ أنّها مُصابة بسرطان الثَّدي كانت تنتظر بقلق وتوتر واضح، لتدخُل غرفة الطّبيب لتسمع منه ماذا ينتظرها بعد الفحص الذي كانت تحمل أوراقه في يديها . أدركتُ مرضَها وفهمتُ مشاعرها بدقّة وما تحدّثَ به ملامح وجهها الحزين الصامت، حيثُ كنتُ قريبة من مريضة السّرطان في مرحلة من مراحل حياتي بحُكم صلة القرابة، ورفقتي معها كلَّ مراحل العلاج الذي إستغرق سنوات.
كنتُ أسعى لأقترب من تلك المريضة وأُطبطب على روحها قبل جسدها وأُهدّأ من روعها وأتحدّث معها بروحي ولساني ولو إستغرق الأمر ساعات.
مرض السّرطان معاناة كبيرة لا تصفهُ كلمات أو سُطور خاصةً لو أُصيبت به المرأة وهي في مُقتبل العُمر وتخضع لعملية فوقَ الكبرى، وبعدها تزور طبيب الأورام لأوّل مرة في حياتها وبشكلٍ دوري لفترة طويلة، وترى أمامها عشراتِ الحالات بدرجاتٍ متفاوتة في شدَّة وقساوة المَرض التي تبدو واضحة لدى أكثر المرضى وحسب المرحلة حيث أنه يتكون من أربع مراحل،قد يُسبب خلال رِحلة العلاج إلى تساقط الشّعر او حتى تساقط الآسنان والضّعف العام وقلّة الشّهية وضعف الأعصاب والعظام وغيرها من الآثار المُدَمّرة على المستوى الجسدي والنّفسي نتيجة الجُرع الكيمياوية .
نظرتُ إليها وجدتُها في حالةٍ من التّيه والحيرة وكأنّها تسألُ نفسها ألف سؤال تلك اللحظة، لماذا أنا؟ مازلت في مقتبل العمر! لم أعش بعد حياةً طويلة! لم أشبع من أولادي او أفرح بهم! وغيرها من الأسئلة التي كانت ملامح وجهها تنطقُ بها.
مريضةُ السّرطان تحتاج لرعاية نفسيّة طوال فترة العلاج مع الرعاية الجّسدية التي تتلقاها من فحص وعلاج بأجهزة مُتطورة تُساعدها على تخطّي مراحل العلاج والتي قد تستغرقُ سنوات من بعد إجراء العملية، من جلسات الإشعاع والعلاج الكيمياوي.. تواجدي في العيادة ونظرتي لتلك المريضة أعاد لذاكرتي فتح ملف مضى عليه سنوات عديدة، كنتُ أظنّه منسياً أو ربّما أتظاهر بنسيانه، لكن ما أن شاهدتُها تذكّرتُ كلّ شئ وأدركتُ أننا لا ننسى الماضي بل هو محفوظ في الذاكرة ويظهر كلّما شهدنا موقف مُشابه له..نظرتُ لها وتذكّرتُ صديقتي كيف تفاجئت ودخلت في صدمة لحظة إخبارها بمرضها من الطبيب المختص. لم تنم تلك الليلة وكأنّها تلقّت خبر موتها المُحقق بعد ساعات وقضتها في بُكاء مستمر وحزن على شبابها وفي أحضانها طفلتها الاولى التي كانت لا تتجاوزُ الأربعين يوماً.
كأنّها في كابوس، تمنّت أن تعيش حياة أطول لتغيّر من ذاتها وتعبدالله ربّما بطريقة أكثر خشوعاً وأكثر رضا لذاتها ، والكثير الكثير مما ورد في خاطرها تلك الليلة حيثُ كنت أستمع لها وقلبي حاضراً معها.
وجَدت نفسها كأنّها في حلم تصحو منه للتو، أدركت أنّها غير مستعدّة للموت الآن وكأنها تريد أن يمنحها الله فرصة جديدة وسنوات أخرى لتستعدله قدر الاستطاعة ،أغلبنا يعيش في غفلة وطول الأملِ ويتصور أن الموتَ بعيداًعنه.
شعرت بالإنكسار، القهر العجز و الألم الذي لا تصفه كل الكلمات، ألم نفسي وجسدي، مشاعر مبعثرة لاتُوصف.
أثناء تواجدي في العيادة ومشاعر الحزن التي إنتابتني تجاه تلك المريضة وردت فكرة في بالي وبعد خروجي من الطبيب وإنهاء إستشارتي لم يتّسع الوقت للحديث معه حيث كانت العيادة مُزدحمة بالمرضى.
عدتُ وفكرتُ ان أكتب الفكرة برسالة وأسلمها للطبيب، وشجعني زوجي على الفكرة وأن يقوم بايصال الرسالة بنفسه.
عرضتُ على الطبيب أهمية وجود إنسان مختص بالعلاج والدعم النفسي لمريض السرطان في العيادة والمستشفيات على أن يكون لديه معرفة كافية بتفاصيل المرض وما يحتاجهُ المريض من دعم نفسي وإرشادي تلك الفترة الحرجة منذ بداية إكتشاف المرض وحتى مراحل العلاج المختلفة والتي قد تستغرق وقتاً طويلاً ، ولتسهيل الأمر وتبسيط الفكرة وإيماني بأهمية هذا المشروع عرضتُ عليه ان أقوم بنفسي بهذا الدور ولو مؤقتاً إن تطلبَ الأمر ومجاناً لبضعة أيامٍ في الاسبوع، إلى أن يُهيئ الأمر ويجد الشخص المطلوب أو يعرض الأقتراح على اللجان الطّبية وذوي الإختصاص ومن له سلطة القرار، لكن لم يرد أي جواب منه للأسف .
حزنتُ على مدى الإهمال تجاه هذا المخلوق المُكرّم عند الله، على كل مريض يبتليه الله بهذا المرض ولايجد معين وسند حقيقي له وقت الأزمة، ونقف مكتوفي الأيدي رغم إستطاعتنا أن نُقدّم له العون والدعم كل حسب تخصصه ومن بيده سلطة القرار في وزارة الصحة، ليت كل مسؤول يُفكر في المريض بروح الإنسانية ليُدرك مدى الألم النفسي لمريض السرطان.
الحالة النفسية أساس وجذر أغلب الأمراض الجسدية والتي يغفل عنها للأسف مجتمعنا العربي والأُسرة وحتى الإنسان ذاته لايدرك مدى أهمية الحالة النفسية وأن إهتمامهُ بصحته النفسية قد تُبعد عنه الكثير من الأمراض الجسدية ومنها الأمراض المُزمنة.
أسأل الله أن يشفي كل مريض وأن يمنح كل مسؤول الضمير الذي يجعله يُؤدي واجبه بأفضل أسلوب ليُرضي الله ويُرضي ضميره وبهذا يبقى على قيد الإنسانية وليس فقط على قيد الحياة.