الكلمة والجرح: الوسيط وسؤال الشرف
أمل الجبوري
لم يكن تصريح برّاك مجرّد رد فعلٍ انفعالي على “فوضى” إعلامية في مؤتمر صحفي، بل كان مرآة كاشفة للعقلية الغربية المتعالية التي لا ترى في شعوبنا سوى “سلوك حيواني” يحتاج إلى ضبط وتأديب. لم تكن كلماته زلّة لسان؛ بل كانت شهادة حيّة على جوهر النظرة الاستعمارية القديمة التي لا تزال تحكم سياساتهم وخطابهم حتى اليوم.
الغرب ـ الذي يقدّم نفسه بوصفه حامل لواء الحضارة ـ لا يتردّد في وصم الصحفيين العرب بالفوضى والبدائية، متجاهلًا أن لهفتهم إلى طرح الأسئلة ليست عبثًا، بل تعبير عن قلقٍ مشروع على أوطانهم، ومصير منطقتهم تحت وطأة الهيمنة الأميركية وحلفائها.
أيها “الوسيط”، هل تظن أن وصاياك في “التحضّر” تُمحى من ذاكرتنا ما تركته جيوشكم من دمار؟
فيتنام: غابات محروقة بالنابالم.
هيروشيما: مدينة أُبيدت في لحظة بقنبلة نووية.
أفغانستان: جرح لم يندمل بعد.
العراق: بلدي الذي دُمّر، ونهبت ثرواته، ورُبط اقتصاده ببنوككم، وصارت سيادته مرهونة بقراراتكم.
أي حضارة هذه التي تُبنى على القتل والاغتصاب والنهب والتجويع؟ بل حتى حين تنسحب جيوشكم، تتركون وراءكم إرثًا من الدماء والانقسامات.
إذا أردت أن تفهم معنى الحضارة، فانظر إلى المنطقة التي تحتقرها:
هنا بُنيت الأبجدية الأولى.
هنا وُلدت الشرائع السماوية.
هنا قامت الممالك، وشُيّدت الكنائس والمعابد، وارتفعت المآذن.
كل حجرٍ في بغداد ودمشق والقدس أعمق من تاريخ دولتك القصير. أما أنتم، فحضارتكم الحديثة بُنيت على إبادة السكان الأصليين في أمريكا، وعلى استعباد الملايين، وعلى امتصاص دماء المستضعفين.
أيها الوسيط: لغتك شهادة عليك
حين وصفت الصحفيين العرب بأنهم يتصرفون كالحيوانات، لم تُهنهم فقط، بل عرّيت حقيقة نظرتكم إلى شعوبنا: أنتم لا ترون في لهفة الأسئلة قلقًا على مصير أوطان، بل تهديدًا لـ”أناقة” دبلوماسيتكم. لكننا نرى في تلك اللهفة دمًا حيًا يبحث عن خلاص.
نعم، نعيش زمنًا عربيًا من الانكسار، حيث يدفع بعض ولاة أمرنا الجزية من ثرواتنا ويشرّعون باسمنا إهاناتكم. لكن الشعوب، مهما طال صمتها، لا تنام إلى الأبد. ستستيقظ ذات يوم لتُذكّركم أن الكرامة ليست درسًا في البروتوكول، بل دمٌ في عروقنا.
واختتم قولي لك، أيها “الوسيط”، بكلمةٍ مأثورة متجذّرة في وجدان العرب: “الحُرّة تموت ولا تأكل بثدييها.”
قولٌ صغير في لفظه، عظيم في معناه؛ لأنه يلخّص فلسفة الكرامة في ثقافتنا: الكرامة عندنا ليست خيارًا سياسيًا، ولا سلعة تفاوضية، بل هي جوهر الوجود نفسه. قد يُساوم الإنسان على ماله أو حياته، لكنه لا يساوم على كرامته، لأنها أثمن من البقاء المجرّد.
وأجزم أنك لن تفهم هذه الحكمة، ولن تستطيع أن تدركها، لأنك ببساطة لا تعرف المنطقة التي تتحدث باسمها، ولا شعوبها الحقيقية التي صاغت هويتها من تاريخٍ ممتدّ أعمق من عمر دولتك. ما تعرفه هو صورة مشوّهة استوردتها من مستوطنين، وأجهزة استخبارات، وأبواق إعلامية، لكنك تجهل ما تعنيه كلمة “الكرامة” حين تُقال في أرضٍ وُلدت فيها الشرائع، وارتفعت فيها المآذن والكنائس والكنس، وصيغت فيها أولى أبجديات الإنسانية.
لذلك، سيبقى خطابك غريبًا عن وجداننا، كما تبقى أنت عاجزًا عن إدراك أن الكرامة في ثقافتنا ليست زينة خطاب، بل هي مبدأ حياة وموت.