منارة العلم الثلجية
عبد الجليل البدري
تخيلوا منارة شُيّدت من جليدٍ ناصع، تأبى إلا أن تتلألأ في فضاء العلم، وحين أطلت شمسُ المعايير الخادعة، تكسرت حوافها ونُثرت شظاها في بركةٍ عميقة من الخيبة. لم ينتفع أحدٌ ببرودة ذلك الجليد الجميل، تمامًا كما لم تنتفع أمتنا بأوراقٍ مطبوعة بحبرٍ ذهبي، لا تطعم جائعًا ولا تسدُّ جوع باحثٍ حرص على خدمة بلده.
الحق أن تلك الأوراق الصفراء لم ترقَ إلى مستوى بناء صروح المعرفة، بل غذّت آفةَ العبث العلمي وأشاعت خرافة أن الأرقام تصنع المجد. تحول البحث في جامعاتنا إلى ورشٍ عبثية تنسخُ ما بين مخطوطتين بلا هدفٍ ولا أثر، حتى لو اقترن باسمٍ مرموق أو بأستاذٍ له باعٌ طويل. وها هي نتائج هذا الانحدار بدأت تورق قطاع التعليم بأكمله، فتعلو أصوات الخوف من انقراض هوياتنا العلمية وتضاؤل أدوارنا في امتداد الحضارة.
لكنني لست وحيدًا في وعيي بهذا الخطر. إنني أتشارك مع زملائي الأساتذة والخبراء رؤيةً جديدة، تتجاوز أصوات الانشغال بالأرقام الفارغة إلى حلولٍ منطقية وهادفة. نؤمن أولًا بربط كل بحثٍ بحاجات مجتمعنا المائية والزراعية والصحية، فلا نجعل المختبرات مُكتفية بالاكتقاب على نطاق الورق المجرد. ثم نضع بنية تحتية متينة تحوي مراكزَ تكنولوجيا حديثة ومكتباتٍ رقمية مفتوحة للجميع، ونضمن شفافية التمويل حتى لا يتحول الدعم إلى دفاتر محاسبيةٍ لا أثر لها على أرض الواقع.
كما نسعى إلى شراكاتٍ فاعلة بين الجامعة والقطاعين العام والخاص، لكي تتحول الأفكار إلى منتجاتٍ وخدماتٍ وخطط تنموية، بدلاً من أن تجف أعواد الأحبار الفاخرة في أدراج التُراب. وفي قلب هذه الرؤية، نُقيم الأبحاث على معيار الأثر العملي، لا على عدد مرات الاستشهاد الكمية، حتى لا تنهار مناراتنا الثلجية مرةً أخرى تحت وطأة أول شمسٍ حقيقة.
إذا آثرتم الاستماع إلى هذه الدعوة الجماعية، فسنحول جامعاتنا من ورش عبثية إلى مصانع حضارية حقيقية، تستعيد مكانتها في قلب الشرق الأوسط وتضيء دروب الأجيال القادمة بصرامة الفكر ودفء الإخلاص.