الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
هيمنة التخصصات العلمية وتراجع مكانة الدراسات الإنسانية

بواسطة azzaman

هيمنة التخصصات العلمية وتراجع مكانة الدراسات الإنسانية

العلاء صلاح عادل

 

شهد العالم العربي خلال العقود الأخيرة تحولات عميقة في بنيته البحثية والمعرفية، تمثّلت في الانجذاب المتزايد نحو التخصصات العلمية التطبيقية، على حساب الدراسات الإنسانية والاجتماعية. هذا التحول، وإن بدا منسجمًا مع متطلبات التنمية الحديثة وموجات الثورة الصناعية الرابعة، إلا أنه أنتج حالة من الخلل في التوازن المعرفي، انعكست سلبًا على المنظومة الفكرية والثقافية العربية، وأضعفت حضور العلوم التي تُعنى بالإنسان والهوية والوعي.

ففي أغلب الخطط الوطنية للبحث العلمي في البلدان العربية، تتصدر مجالات الطب والهندسة والطاقة والتقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي أولويات التمويل والدعم، باعتبارها الركائز الأساسية للتقدم المادي ومؤشرات التنمية الاقتصادية. غير أن هذا التركيز المفرط خلق فجوة معرفية عميقة بين “العلم التطبيقي” و“العلم الإنساني”، وأنتج تصورًا اختزاليًا للمعرفة يقوم على معيار المنفعة المادية المباشرة، في حين تُهمّش العلوم التي تشتغل على بناء الإنسان كقيمة فكرية وثقافية.

لقد أصبحت العلوم الإنسانية – في كثير من المؤسسات الأكاديمية العربية – أشبه بـ“الهامش الفكري” الذي يُنظر إليه بوصفه ترفًا ثقافيًا لا يُدرّ عائدًا اقتصاديًا، رغم أنها تُشكّل في جوهرها البنية التحتية للوعي الجمعي، وحاضنة التفكير النقدي، وأداة فهم الذات والمجتمع. وبهذا التهميش، يفقد البحث العلمي أحد أهم أبعاده الوجودية: البعد القيمي والإنساني الذي يمنح للمعرفة معناها ودلالتها في خدمة الإنسان لا في استعباده بالأدوات.

ولا تقتصر هذه الإشكالية على الحالة العراقية فحسب، بل تمتد لتشمل معظم الدول العربية التي تتصدر مؤشرات النشر العلمي من حيث الكمّ، لكنها تُعاني من ضعف في العمق النوعي للبحوث الإنسانية. فالموارد المالية والمؤسسية تُوجَّه غالبًا إلى المشاريع ذات الطابع التقني، بينما تُحرم البحوث التي تدرس التحولات الاجتماعية، وبنية الخطاب الثقافي، والهوية الوطنية، والديناميات السياسية من الدعم والرعاية، وكأنها لا تنتمي إلى منظومة “العلم النافع”.

إن خطورة هذا المسار تكمن في أنه يُفرغ البحث العلمي العربي من بعده الفلسفي والإنساني، فيتحول إلى آلة إنتاج معرفي بلا روح ولا رؤية. فالتنمية التي تقوم على التكنولوجيا وحدها هي تنمية مبتورة، لأنها تتجاهل الركيزة الأساسية لكل مشروع حضاري: الإنسان. ومن دون فهم الإنسان وقيمه وسلوكه وتفاعلاته الاجتماعية، ستبقى التنمية سطحية، مادية، محدودة الأثر، فاقدة للتوازن بين العلم والقيم.

إن أزمة التوازن المعرفي العربي تعكس خللًا أعمق في الرؤية الإستراتيجية، حيث يُختزل مفهوم التقدّم في عدد براءات الاختراع أو تصنيف الجامعات، دون الالتفات إلى دور المعرفة في بناء الوعي النقدي والمجتمع المتفكر القادر على تحليل ذاته وإعادة إنتاج ثقافته. فالعلوم الإنسانية لا تُقاس بمعايير الإنتاج الكمي، بل بقدرتها على توليد الأسئلة الكبرى التي تُعيد للإنسان مكانته في مركز الوجود.

ولعل ما يعمّق الأزمة هو النظرة الأكاديمية السائدة داخل بعض الجامعات العربية، التي تُصنّف الباحث في مجالات الفلسفة، أو الاجتماع، أو الإعلام، أو التاريخ، على أنه أقل إنتاجية وتأثيرًا من الباحث في الهندسة أو الطب. هذه النظرة لا تعكس فقط سوء فهم لدور العلوم الإنسانية، بل تمثل اختزالًا خطيرًا للمعرفة في بعدها المادي والإجرائي، على حساب بعدها القيمي والرمزي.

إن إعادة الاعتبار للدراسات الإنسانية ليست ترفًا معرفيًا ولا مطلبًا نخبويًا، بل ضرورة وجودية لضمان التوازن بين التقدّم العلمي والتطور الاجتماعي. فالمجتمعات لا تُبنى بالآلة وحدها، بل بالعقل والضمير والخيال. والإنسان الذي لا يقرأ تاريخه ولا يفهم ثقافته ولا يسائل ذاته، مهما بلغ من التقدّم التقني، يبقى أسير أدواته.

من هنا، تبرز الحاجة إلى مشروع عربي شامل لإعادة صياغة مفهوم البحث العلمي ليقوم على مبدأ التكامل لا التنافس بين التخصصات، بحيث تتفاعل العلوم الطبيعية والتطبيقية مع الدراسات الإنسانية في إطار رؤية معرفية موحّدة، تجعل من الإنسان محورًا للعلم ومن العلم وسيلةً للارتقاء بالإنسان.

إن المستقبل العربي المنشود لا يمكن أن يُبنى على معادلات رياضية وحدها، بل يحتاج إلى وعي نقدي، وثقافة إنسانية، وفلسفة أخلاقية تعيد للعلم روحه، وللمجتمع توازنه، وللمعرفة معناها الأصيل: أن تكون في خدمة الإنسان، لا أن يتحول الإنسان إلى خادم لها.


مشاهدات 1
الكاتب العلاء صلاح عادل
أضيف 2025/11/12 - 1:53 PM
آخر تحديث 2025/11/15 - 10:57 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 63 الشهر 11099 الكلي 12572602
الوقت الآن
الأحد 2025/11/16 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير