هوية مصر العربية

علي ضياء الدين

الأصوات النشاز التي تشكك، باندفاعة رعناء، بهوية مصر العربية لا تخفي. هذا الادعاء لا يصدر عن عامة الناس بل عن مثقفين في معرض احتجاجهم على المستويات المروعة من الردة الرجعية التي تمر بها الأمة العربية منذ نكسة 67 فيرجعونها الى خلل أصاب الأمة منذ ان اختارت هويتها العربية الاسلامية لكنهم يتجاهلون ان الانتماء الى العروبة لدى المصريين سابق على دخول الاسلام اليهم بقرون. سأدع هنا من هو أعلم بتاريخ مصر العلامة الراحل جمال حمدان يتحدث عن أصالة الانتماء المصري الى العروبة وسأقتبس من أجل هذا فقرات من الجزء الرابع من كتابة الرائع» شخصية مصر.. دراسة في عبقرية المكان». يقول العلامة الجغرافي الكبير:( لقد اندثرت كلمة المستعرب في الغرب الأوربي ومعه، ولكن هناك من يبدو أنه يعمل لبعثها في المشرق العربي. والهدف من كل هذه الدعاوى هو دائماً تخريجات سياسية واضحة ترمي الى التشكيك في عروبة مصر وبالتالي الى عزلها عن العالم العربي). ( ونبدأ فنقول ان مصر لم تكن الوحيدة التي أثير حولها هذا الجدل. فالسودان وصف بأنه افريقي وليس عربياً، والمغرب زعموا أنه بربري لا عربي، وقيل عن لبنان والشام حيناً آخر بأنه فينيقي أو سوري وليس عربياً، والعراق لم ينج من الاتهام. بمعنى آخر أن كل أجزاء العالم العربي خارج الجزيرة العربية دمغت بصورة أو أخرى بأنها ليست عربية ولكنها مستعربة على أساس أن السكان قبل التعريب لم يكونوا عرباً «جنسياً»).

مضمون ثقافي

( ولكن هذا الأساس ينهار من اللحظة التي يتطلب فيها «عروبة جنسية»، فالعروبة مضمون ثقافي لا جنسي أولاً. ومع ذلك فكل الغطاء البشري الذي يغطي ما يعتبر الآن العالم العربي هو أساساً فرشة واحدة من جذر واحد. وعلى الأقل فان الاختلاط والانصهار الدموي بين العرب الوافدين والسكان الاصليين حقيقة تاريخية بعيدة المدى. على أن الذي يكشف خواء المناقشة من أساسها ويجعلها جوفاء حقا أنها تمثل منطق مزايدة وهروب: ففي عقر دار العرب ستظل تجد العرب العاربة» و» العرب المستعربة» ولكننا لا نسمع من يقول ان عرب الشمال ليسوا عرباً وانما متكلمون بالعربية. ولا ندري الى أي مدى يمكن المضي في تجريد جزء آخر من العرب العاربة بدورها من أصالته). ( أين الحقيقة اذن في عروبة مصر؟. أين هي من الفرعونية القديمة؟. أهناك حقاً فارق بين نوع العروبة شرق السويس وغربها كما يزعم بعض الدعاة؟. ثمة عدة حقائق. فاذا بدأنا من البداية، فان أول ما يجبهنا هو أن الفرشة الجنسية الأساسية التي كانت تغطي نطاق الصحارى في العالم القديم من المحيط الى الخليج كانت تنتمي الى أصل واحد متوسطي. وحين كانت الصحراء سفانا يسودها صيد الحجري القديم كانت كثافة السكان مخلخلة جداً.. ومن ثم كان الاختلاط الجنسي أساسياً ولا محل لعزلة ما). ( فشعوب المنطقة- قبل العرب والاسلام- هم أساساً وأصلاً أقارب انفصلوا جغرافياً، ابتداء من العراق الى الشام الى الجزيرة العربية ومن مصر الى المغرب أو السودان. والتوطن المحلي والمؤثرات الداخلية الموضعية والتزاوج الداخلي الذي حدث بعد ذلك، لا يمكن أن ينتج أكثر من إبتعادات محلية ضئيلة لا تغير من وحدة الأصل الدموي وتجانس العرق وان تطورت اللغات والالسن ما بين سامي وحامي. ويظل العالم العربي أو بيت العرب الكبير هو « دوار العرب». بمعنى الأسرة الموسعة التي تضم عدة أسر نووية أو خلوية). ( وعلى أية حال، فلقد عرفت مصر قبل الاسلام فرعي العرب الكبيرين: القحطانيون الزراع كانوا يعبرون البحر ويستقرون في الوادي ويختلطون بسكانه، والعدنانيون كانوا يجوبون الصحراء الشرقية كبدو رحل.. ومعنى هذا بوضوح أن تعريب مصر سبق في بدايته الفتح العربي والعصر الاسلامي وأنه قديم في مصر مثلما كان قديما في السودان وان كان الفتح نفسه هو الخطوة الحاسمة).

ناحية سياسية

( أخيراً وليس آخراً بالتأكيد، نصل من هذا كله، في الخلاصة والمحصلة، الى الفارق العملي والواقعي والحاسم بين الفرعونية والعروبة. فالفرعونية تنتمي الى الماضي، بينما العروبة حاضر ماثل واقع. الفرعونية أسم، حيث العروبة فعل أو أن كان ولا بد، فان الفرعونية فعل ماض بينما العروبة فعل مضارع ومن ثم ففي حين تمت الفرعونية الى الماضي تطل العروبة على المستقبل. ومن ثم بالتالي كان مصير مصر عربياً من الناحية السياسية، بمثل ما أن مصير العرب مصري من الناحية الحضارية).

ولولا ضيق المقام لاقتبست الكثير الكثير من هذا العلم الزاخر لكني أدعو الى قراءة هذا السفر الكريم الذي أتحفنا به العلامة الجغرافي الراحل جمال حمدان وفيه دفوع علمية رصينة عن عروبة مصر الكنانة.