الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
ساستُنا في حكومات المحاصصة: الحكمة أن تعرفوا قدرَ أنفسكم

بواسطة azzaman

همسات ساخنة... ومضات هادئة

ساستُنا في حكومات المحاصصة: الحكمة أن تعرفوا قدرَ أنفسكم

 

لويس إقليمس

 

من الجميل جدًّا أن يعرف الإنسان قدرَ نفسه ويعترف بما هو عليه، لا أن يتقمّصَ ما لا قدرةَ له على عيشه وإثباته في مسيرة حياته. فمهما كثرت وتراكمت ما يقدّمه الإنسان أو يسعى أيّ فردٍ لاستعراضه من شهادات وخطابات مشاركة في مناسبات وندوات ومهرجانات علمية وأدبية وفنّية وسياسية واقتصادية وما على شاكلة هذه جميعًا، فهي تبقى في نظر العقلاء والحكماء وسادة المجتمع الناضجين من غير المتقمّصين واقع غيرهم، نتفًا ضعيفاتِ الحيلة في التقييم والتقدير وحقيقة الواقع والضمير. ومَن لا يعرف قدرَ نفسه وحدود قدراته الحقيقية معرَّضٌ في أية مناسبة غير معروفة أو مصادفةٍ غير محسوبة النتائج للوقوع في فخاخ المجد الخاوي والكبرياء الزائل وربما الفضيحة المجتمعية مع عمق معرفة المجتمع الذي يعيش فيه بوضعه وحاله وترحاله. وليس بعيدًا البتة مواجهة صعوبة في التراجع عن الخيط الأسود أو الرمادي الذي اختاره في وقتٍ ما من دون تمحيص ولا تفكير بالنتائج غير المجدية بسبب احتمالية كشف المستور في يومٍ ما وفقدان المقدرة على معالجة مكامن الخلل في أية فرصة قدرية لا تعرف سترًا لفضيحة أو احترامًا لكرامةٍ. فليسَ كلُّ مَن يدّعي حمل شهادة مهما كانت، صغرى أو عليا جديرٌ بتقدير مفعولها واحترامها حين لا تتناغم هذه الأخيرة مع الفعل والعمل والنشاط في المجتمع والوسط الذي يعيش فيه أصحابُها. وكم من هذه النماذج وقعَ أصحابُها في فخاخ الكذب والتزوير عن قصدٍ أو بدون قصدٍ وهم يقدمون أنفسَهم علماء مجتمع وساسة بلدان وشعراء صدفة ومشايخ قوم بغير استحقاق ولا ضمانٍ لقيمة ما يدّعون حملَه من افتراءات قد تكون خارج تخصصاتهم في الكثير من الأحيان. لكنها الموجة المعاصرة حين يركبُها فرسانُ اليوم المزيّفون ممّن لصقوا بأنفسهم صفة سادةِ مجتمع وهم من حثالة القوم وواطئهم، أو ممّن تجاهروا بادّعاء تمثيل مكوّن وهم لصوصٌ وسرّاقٌ ومزيّفون، أو ممّن ركبوا موجة لبس "بشت" مشايخ وهم غير مستحقين حتى بجزءٍ يسيرٍ من تمثيل العشيرة أو القبيلة ومعرفة خيرها من شرّها.

في اعتقادي، مثل هذه النماذج السلبية السارية في مجتمعنا وغيرُها كثيرٌ، يمكن تعدادُها في خانة جريمة انتحال الصفات والألقاب وتزوير الشهادات في شتى المعارف والاختصاصات فيما هم بعيدون كلَّ البعد عن حقيقة هذه جميعًا. وذات الشيء ينطبق على مَن سمحَ لنفسه بفرض ذاته سياسيًا بالصدفة وتسلّقَ مراتبَ ومناصب في الحكومات العراقية المتعاقبة منذ السقوط الدراماتيكي على أيدي المحتل الأمريكي الأهوج وعملائه ومتخادميه في الوطن والمنطقة كجزءٍ من سياسة التحاصص البغيضة التي دمّرت البلاد وأفسدت العباد وأفرغتها من كفاءات مستحقة اضطرّت للصمت أو مغادرة الوطن صاغرة يائسة من إصلاح الوضع بسبب سطوة جماعات لصوصية على مقدرات البلاد والعباد بالطريقة التي رسمها الحاكم المدني الأمريكي العفن "بريمير" بالتشارك والتعاون مع جهات عراقية عميلة ذيلية وإقليمية حاقدة كارهة لكلّ ما هو عراقي حضاري وتاريخي أصيل. ولعلَّ العراقيين والمتابعين الجيدين لأوضاع العراق يتذكرون الردّ الصائب والصادق للسياسيّ الوطنيّ الراحل "طارق عزيز" حينما سُئل عن طبيعة المعارضة العراقية حينها سواءً في الداخل أو الخارج. فكان ردّه الناصع والواقعي كما شهدناه ومازلنا نشهدُه في حقيقة وواقع معارضة الأمس وحاكمة اليوم:" لا يوجد معارضة حقيقية بل هناك مجموعة لصوص يستجدون في دول الغرب".

فضيحة الألقاب العلمية مصيبة

إزاءَ ما أصابَ العراق وأهلَه الطيبين من مآزق ومضايقات ومشاكل وصعوبات في عيش الحياة الطبيعية لأيّ فردٍ في مجتمع متماسك وطبيعي، ما كان من الكثير من الطيبين من مواطني البلاد الشرفاء إزاء الأوضاع المتردية الطافحة فسادًا ومساومةً ولصوصيةً ورشىً وتهديدًا وقتلاً واستيلاءً على الممتلكات الخاصة والعامة بطرقٍ بشعة وانتهازية إلاّ الاضطرار لهجرة الوطن وترك الأرض والانسلال عن العشيرة والعائلة والمدينة والوطن هربًا من فساد الساسة والمتنفذين من المزوّرين الذين اعترف العديد من زعاماتهم التقليدية الحالية علانية على الملأ بإجرامهم بحق شعبهم وخيانة وطنهم ودينهم ومذهبهم. فقد أثبتوا بأفعالهم وسلوكياتهم اليومية الإدارية والسياسية أنهم لا يعترفون أصلاً بمصالح البلاد العليا. كما لم يتوانوا أو يتأخروا أو يتحرّجوا بالتصريح العلني بولائهم لغير الوطن من خارج الحدود. لذا لا غرابة في تباهي عددٍ كبير من ساسة الصدفة في عراق اليوم باللهاث وراء ألقاب علمية لا يستحقونها. فالمهمّ عند هؤلاء تدبيج أسمائهم بحرف الدال (د.) عند تذييل التوقيع أو التصريح به في الفضائيات واللقاءات ووسائل التواصل الاجتماعي عامةً. وسواءً حصل هذا بدافع الحماسة المفرطة أو لسبب الشعور بالنقص الداخلي والمجتمعي أو من أجل نيل شيءٍ من التعاطف العائلي أو العشائري أو "الوطني" المزيّف أو ما يشبه هذا وذاك، فذلك ضربٌ من الزيف والكذب والضحك على ذقون البسطاء وسط شعبٍ متخلّف بائسٍ لا يجيد قراءة حقيقة الأشخاص، أو تماهٍ بخس مع علّية القوم ثقافيًا وعلميًا وأدبيًا على طريقة ركوب موجة التزييف والتزوير السائدة في أوساط المجتمع وبعض مؤسساته التعليمية العليا التي فقدت مصداقيتها وشيئًا كبيرًا من موثوقيتها العلمية والأدبية وحتى الأخلاقية هي الأخرى. كما أنه بسبب وسائل الضغط والرشى التي أصبحت شائعة في هذه الجريمة المفضوحة في وسائل العلم العليا من جامعات ومعاهد ومدارس بكافة فروعها واختصاصاتها، سواءً في داخل البلاد أو خارجها، فقد افتضح أمرُها واضطرّت العديد منها للتغطية على القائمين عليها وطمطمة الفضيحة. ولعلَّ ما شهدناه في السنوات الأخيرة من فضيحة تزوير الشهادات العليا لروّاد السياسة في العراق تحديدًا وخاصة من خارج الوطن من قبل جامعات هي في الأساس مرتبطة بجهاتٍ ولائية لدولة الجارة الشرقية أو من المتعاونين مع إداراتها المشبوهة عبر التساهل والتشارك والمساهمة بمنح الألقاب الجامعية العليا لعددٍ كبيرٍ من ساسة العراق والموظفين التنفيذيين أو من المرتبطين أو المحسوبين على زعامات سياسية مشبوهة، خيرُ دليلٍ على مدى الاستهتار بالعلم والمعرفة والكفاءة التي لم تعد سيّدَ الحال.

  

 ساسة بلا وطن

 السلوك ذاتُه ينطبقُ على السذّج والتافهين والطافحين على أسطح عارية ممّن يدّعون "الوطنية" وهم في حال عيشهم وسلوكهم الفعليّ وسيرتهم اليومية بعيدون كلّ البعد عن أية مسحة أو سمة وطنية حين يضعون مصالح الغير من خارج الوطن أو وطنًا غير وطنهم في مقدمة أولوياتهم وتضحياتهم واهتماماتهم. بل إنّ البعض من ساسة وزعماء اليوم المزيّفين ومن نوّاب الشعب المنافقين في عراق ما بعد الغزو الأمريكي الأهوج في 2003 يتفاخرون بولائهم الأيديولوجي لجارتهم الشرقية ويعاندون عقائديًا من أجل بقاء مصالحها في البلاد والمنطقة كجزءٍ من راية الولاء الممجوج وغير المقبول وطنيًا وعربيًا واخلاقيًا بالرغم من نأي طبقات المثقفين والوطنيين الأحرار والمستقلّين فكرًا ومصيرًا ورؤيةً، بالنفس عن هذه السلوكيات المدمّرة لمصالح الوطن والشعب على السواء. ولكن كما يبدو، لا سبيل للكفاءات الوطنية الحقيقية المتشبعة بحبه والناصحة بخيره بلوغَ ما في جعبتهم من الانتماء الحقيقي له وليس لغيره بسبب افتقارهم للأدوات والوسائل التي تحمي مصالحَه العليا وسلامةَ أرضه وسمائه ومياهه. وتشهد لهذه المأساة العديد من الملفات العالقة أو غير المعالجَة أو التي تفتقد المصداقية في الأداء والعمل والتنفيذ. وحتى المشاريع التي ادّعت أو تدّعي الحكومة الحالية تحقيقها، لم تخلُ من فساد الساسة والإدارة الحكومية والهيئة التشريعية والقضائية التي يُفترض وقوفُها إلى صفّ المنهج الصالح والعمل الصادق في تنفيذها وإدامتها بما يتلائم مع الأموال الضخمة التي صُرفت لها وعليها. وما نُشر ويُنشر كلّ يوم في وسائل التواصل الاجتماعي ويُحكى عنه في الفضائيات من أشكال ملتهبة الفساد ومن مبالغ انفجارية طائلة مصروفة أو مسروقة على امتداد الحكومات المتعاقبة منذ 2003 والتي ربّما تصل إلى أكثر من 40% من موازنات البلاد بحسب معلومات، جديرٌ بثورة وطنية مجتمعية عارمة ضدّ مَن يدير دفّة الحكم في العراق حيث السياسة أضحت أفضل استثمار مربح لكلّ مَن يتقرّبُ منها أو يتعاطاها. وكما قالها البعض: "السياسة في العراق ليست مهنة، بل يانصيب مضمون الجائزة: راتب مجزي مدى الحياة، ضمان صحّي، سكن فاخر وحمايات، سيارات فارهة، جواز سفر دبلوماسي له وللعائلة، سفرات سياحية متكررة..." وما إلى ذلك من امتيازات  يحرص النواب والحكومات الهزيلة التي يأتون بها لتضمين وضمان مكاسب جديدة لهم وللتنفيذيين الكبار مع كلّ دورة انتخابية في شكل القوانين والتعليمات التي تصدر في أغلب الأحيان ضمن سرّية تامة لا يُعلنُ عنها في الإعلام.

لذا ليس غريبًا ولا دخيلاً اتهامُ جهات حكومية وتشريعية وقضائية في شبه الدولة العراقية بخروج الكثير من مسؤوليها عن جادة الوطن والوطنية في السلوك والأداء والمنهج بسبب انتهاج سياسات في بعضها طائفية وأخرى حزبية أو فئوية ضيقة وغيرها عنصرية لا تنسجم مع تاريخ بلاد ما بين النهرين الخالدين وحضارته الرافدينية الموغلة في عمق التاريخ. فما همَّ غالبية ساسة البلاد ومؤسساتها الهشّة الهزيلة منذ السقوط لم يتعدّى الانتماء الجزئي والطائفي والمذهبي في كلّ مراحل الحكومات المتعاقبة في سياسة تقاسم النفوذ والجاه والمال وفي شيطنة اللهاث وراء مكاسب ضيقة والتفنّن في سرقة أموال الدولة السائبة التي يعدّها البعض من مواطني البلاد وبعض مراجعه مالاً سائبًا يجوز استغلالُه وسرقتُه والاستفادة منه خارج أصول الدولة وقوانينها ودستورها الأعرج. ولهم في بعض هذه الادّعاءات فتاوى من بعض المراجع الدينية غير الرصينة. وهذا ممّا يشيرُ بحسرة إلى عجز الطبقة السياسية الحاكمة منذ 2003 من التحرّر من أغلال الانتماءات الضيقة المشبوهة بحسب الكثيرين حيث فشلت الأحزاب الحاكمة جميعًا وما نبع منها من أحزاب فرعية انتشرت كالأميبا سعيًا ولهاثًا وراء مكاسب مضمونة في مؤسسات اللاّدولة القائمة التي كانت تقتضي منهم النهوض بمسؤولية الانتماء إلى وطن جريحٍ يُسمّى "العراق". بمعنى أوسع، يمكن الجزم بفقدان الوطن انتماءَه الجامع وتشتّت ولاءاته لغيره من خارج أسواره والاستعانة بهويات فرعية تشتّتُ مصالحَه بدل جمعها في بودقة الانتماء الصادق. وهذا ما دفع العراق للانحدار السلبيّ يومًا بعد آخر بسبب تقاطع المصالح واختلاف شكل الانتماءات التي تشتدُّ مع كلّ فرصة سانحة لفرض الهوية الوطنية على سائر الهويات والانتماءات، ممّا يزيد من تفاقم مرض السلطة بين الأفرقاء المتخاصمين خالقًا شيئًا من المرض الجمعي في نسيج المجتمع العراقي ككلّ. وهنا الخوف من تفاقم هذه النزعة بأشكالها الحزبية والطائفية والعشائرية والدينية والعرقية عندما تتحول الدولة إلى جمهوريات متجزئة متشظية لا يجمعُها الولاء للوطن ولا تمنّي الخير للشعب البائس الذي تتحكمُ به مراجع غير متزنة تعمّقُ بسلوكها المتخلّف الفجوة بين خير الشعب ومصالح الوطن العليا. فالمشروع الوطني غائبٌ في مناهج ساسة ما بعد 2003 بكلّ تأكيد وهو بحاجة إلى تغيير شامل في العقل والضمير والمنهج كي تنهض البلاد من جديد. فلا الانتخابات القادمة تُصلحُه ولا صياحات النواب في المؤسسة التشريعية فاقدة الاتزان تنفعُه ولا مشاريع الحكومات المتأرجحة تنقذُه من كبوته لكونه أُريد له أن يبقى بلدَ المكوّنات والكيانات والطوائف وليس وطنًا يستفيءُ بظله جميع مواطنيه بلا تمييز ولا استثناء ولا محاباة.


مشاهدات 40
الكاتب لويس إقليمس
أضيف 2025/08/17 - 2:34 PM
آخر تحديث 2025/08/18 - 8:06 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 235 الشهر 12637 الكلي 11407723
الوقت الآن
الإثنين 2025/8/18 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير