الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
بوصلة القوة وظل النخيل

بواسطة azzaman

بوصلة القوة وظل النخيل

طيبة الحسناوي

 

الخوف غم متوقع، والحزن غم حاصل… ومابيناهما مرت الأيام.

لا أزال أحاول أن أتذكر متى كانت آخر مرة ضحكت فيها من قلبي بعد سقوط بغداد ، ربما كانت في الصف بين صديقات المدرسة، على تلعثم بكلمة أو مشاركة يوميات بعفوية المراهقة، أو تهويل التفاصيل لتصبح محور النقاش في المنزل.

اتخذت لنفسي في المنزل دور الجوكر (للمسنين حصراً  )، أحاول إسعاد جدي وجدتي، أريد رؤيتهما يبتسمان بعدما فقدوا أخوالي أحدهما شهيدفي أحدى الجمع الدامية والآخر مغدور في نفس العام. شعرت بمسؤولية إسعادهما رغم عدم طلبهما، وكنت أذهب كل يوم لأشقر عليهما، كما يقول المصريون، فكانا يأنسان بالحوار معي. كنت أسرد يومياتي في المدرسة والعمل والعائلة، ومصادفات الجيران، حتى أصبحا دفتر مذكراتي الحي.

حاولت أيضًا إسعاد والدي بعد تقاعده، وكان كوب الشاي رفيقه الدائم. يحب الجلوس قرب الباب، يستمتع بأشعة الشمس ودخان سيجارته، صامتًا أغلب الوقت. كنت أتذكر عينيه وهي تبتسم، وضحكته المحبة، وكان يقول لي: "أحاديثك لذيذة مثل المشمش "، فأضحك لأني احب المشمش العراقي الذي يزرع بسماد يخلو من الكيماويات لا مشمش اليوم المستورد شكلاً بلا مضمون ، وتترسم التجاعيد حول عينيه عندما يضحك كانت تجاعيد الابتسامة تشبه أقدام ببغاؤه الذي سعره كان يعادل راتب خمس معلمين قبل أن يتم تعديل سلم الرواتب  في ٢٠٠٨ على أمل أن يتعدل السلم مجدداً الذي دمرته عوامل التعريه ! وهنا عوامل التعرية تشمل (البيئية والجيكلاسية ! ). كانت محادثاتنا انا ووالدي ملاذي، واستماعه لي بلا كلل جعلني أشعر بالأمان، وردودة المختصرة تنم حكمة وتجربة تعكس خبرتة بالحياة

  ثم غادرنا الرحمة لروحه فزرع بداخلي غمًا لحزن حاصل لا لوذ منه ولا فرصة لإعادته.

جدي، الصديق الوفي والمستمع الأمين رغم ضعف سمعهُ ، يلتقط مشاعري قبل كلماتي كان آخر محطة للحزن والفقد. نظامي حتى في العاطفة، لكل ابن نخلة، وكل نخلة تحمل صبره على فقد أولاده. حديقة بيت جدي كانت كبيرة جدًا، مليئة بالنخيل وأشجار الحمضيات، كنا نجلس على المرجوحة الحديدية و نشرب من صنبور الماء ماءاً منعشا عذباً لم يكن للمي آرو حاجة آنذاك  اصبح مايصل منازلنا اليوم فقط الماء الذي كان سابقاً مخصصاً لسقي الحدائق يعرف عراقياً( المي الخابط!) ، شهد النخيل على محاولاتي لمواساته، فالنخيل أيضاً يشعر  بفقدان أصحابه كما يخاف تهديدهم اذا لم تحمل لهم تمراً ! .

الحياة لم تكن رحيمة. فخسارة خالي في أحد الانفجارات، ومشهد والدتي وهي تبحث عن جثمانه بين ثلاجات الموتى، مشاهد حفرت نفسها في ذاكرتي! كل هذه التجارب، من السطو المسلح، والحرب، والوفيات، والتسليب، والتهديد والطائفية، وتجربة الغربة، والدماء، حولتني من فتاة تتصل بأمها كل حين عندما تخرج، إلى سيدة تصنع قراراتها بقوة من صلب الخسائر، لا يخيفها الموت، ولا يهمها حال، لكنها تعرف قيمتها وتعرف معنى المسؤولية.

مع مرور الأيام، بدأت أصوات المجتمعات أصوات النقد والمبالغة في المديح تضعف. كلما عرفت نفسي أكثر، صار الغم والخوف شيئًا يمكن تجاوزه. رؤيتي لحقيقتي بوضوح جعلتني لا أغتر بالمبالغة في المدح، ولا تكسرني قسوة النقد، لأن تفاصيل رحلتي من دروس وأوجاع لم يعرفها الآخرون، أصبحت ساكنة بداخلي. السلام النفسي لم يعد في رضا الجميع، بل في معرفة أن قيمتي ثابتة مهما تغيرت نظراتهم.

القوة والضعف لا علاقة لهما بالتواجد والغياب، بل بمعرفة الذات. كلما زاد فهمي لنفسي

 صارت اللحظات الصغيرة، كضحكة طفل، مزحة  فرد ودود ، غيمة تصادف سمائي، أغنية تذكرني بذكريات بعيدة، أو فنجان قهوة يخفف لي الضغوطات، تمنحني شعورًا بالفرح وسط الأعباء، رغم استمرار القلق والغم المتوقع من كثرة المسؤوليات.

 أواصل السير، مستندة على إرث الرجال الذين رحلوا، والذين علّموني أن العطاء، والإيثار، وفعل الخير، هي أشكال أخرى من القوة.

 


مشاهدات 36
الكاتب طيبة الحسناوي
أضيف 2025/08/16 - 3:39 PM
آخر تحديث 2025/08/17 - 1:26 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 69 الشهر 11682 الكلي 11406768
الوقت الآن
الأحد 2025/8/17 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير