الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الوعود لغة السياسة أم أداة تسويف ؟

بواسطة azzaman

الوعود لغة السياسة أم أداة تسويف ؟

عبد الستار الراشدي

 

في كل دورة انتخابية، يُعاد المشهد ذاته في العراق: وعودٌ تتدفق كالسيل، وشعاراتٌ تُطرّز بالأمل، وابتساماتٌ تُوزّع بسخاء على الأرصفة المتهالكة. المواطن العراقي، الذي أنهكته الحروب والصراعات والانقسامات، يجد نفسه مرة أخرى في قلب معادلة لا تتغير: مطرقة الوعود وسندان الانتخابات. وبين هذا وذاك، تتآكل الثقة، ويزداد الشعور بالخذلان، ويُطرح السؤال الأبدي: هل من خلاص؟

منذ سقوط النظام السابق عام 2003، دخل العراق مرحلة جديدة من التعددية السياسية، لكن هذه التعددية لم تُترجم إلى تنمية حقيقية أو إصلاحات ملموسة.

بل أصبحت الوعود السياسية جزءًا من المشهد الانتخابي، تُستخدم كأدوات جذب لا أكثر. فكل مرشح يملك قائمة طويلة من التعهدات: تحسين الخدمات، مكافحة الفساد، توفير فرص العمل، بناء المدارس والمستشفيات، وإنهاء المحاصصة الطائفية. لكن ما إن تنتهي الانتخابات، حتى تبدأ مرحلة النسيان، وتُطوى تلك الوعود في أدراج المكاتب الحكومية.

الوعود في العراق ليست مجرد كلمات، بل هي انعكاس لثقافة سياسية تقوم على الاستهلاك العاطفي للمواطن. يُخاطب الناخب بلغة الحنين، ويُستدرج بالأمل، ويُستغل في لحظة التصويت، ثم يُترك وحيدًا في مواجهة واقعٍ لا يرحم.

الانتخابات: أداة ديمقراطية أم مسرحية متكررة؟

من حيث الشكل، تُعد الانتخابات العراقية ممارسة ديمقراطية، تُتيح للمواطن اختيار ممثليه. لكن من حيث الجوهر، كثيرًا ما تتحول إلى مسرحية سياسية، تُدار خلف الكواليس، وتُحسم وفقًا لمعادلات النفوذ والمال والسلاح. فالمواطن لا يصوّت فقط بناءً على البرامج، بل يُضغط عليه أحيانًا بالانتماء العشائري أو الطائفي، أو يُغرى بالمساعدات المؤقتة، أو يُخدع بالدعاية الإعلامية.

الانتخابات في العراق تُعاني من مشكلات بنيوية: ضعف الرقابة، تدخل الأحزاب المسلحة، شراء الأصوات، وتزوير النتائج. كل هذه العوامل تُفرغ العملية الديمقراطية من مضمونها، وتجعل المواطن يشعر بأنه مجرد رقم في معادلة لا تُراعي مصالحه الحقيقية.

المواطن: بين الأمل واليأس

المواطن العراقي ليس غافلًا عن هذه اللعبة السياسية، بل هو أكثر وعيًا مما يُظن. لكنه يعيش حالة من التناقض: فهو يأمل في التغيير، لكنه لا يثق في أدواته. يُشارك في الانتخابات أحيانًا بدافع الواجب أو الأمل، وأحيانًا يُقاطعها احتجاجًا أو يأسًا. وبين المشاركة والمقاطعة، يبقى السؤال: هل يمكن أن يُحدث المواطن فرقًا؟

في الواقع، المواطن العراقي يملك قوة هائلة إن تم تفعيلها: قوة الصوت، وقوة الوعي، وقوة التنظيم. لكن هذه القوة تُقابلها منظومة سياسية تُحاول تفتيتها، عبر بث الانقسام، وتكريس الطائفية، وإضعاف مؤسسات المجتمع المدني. فكلما زاد وعي المواطن، زادت محاولات تهميشه.

الإعلام: شريك في الخداع أم صوت للمواطن؟

يلعب الإعلام دورًا محوريًا في تشكيل وعي المواطن خلال الانتخابات. لكنه في كثير من الأحيان يتحول إلى أداة دعائية بيد الأحزاب، يُروّج للوعود، ويُجمّل الصورة، ويُخفي الحقائق. الإعلام العراقي يُعاني من الاستقطاب، ويفتقر إلى المهنية في كثير من الأحيان، مما يُضعف قدرته على كشف الزيف، ويُساهم في تضليل المواطن.

لكن في المقابل، ظهرت منصات إعلامية مستقلة، ومبادرات شبابية، تُحاول كسر هذا النمط، وتُسلّط الضوء على القضايا الحقيقية. هذه المبادرات تُعد بارقة أمل، لكنها تحتاج إلى دعم وتوسيع لتُحدث تأثيرًا فعليًا.

المال السياسي: لعنة الانتخابات

من أبرز مظاهر التشويه في الانتخابات العراقية هو المال السياسي. فالأحزاب تُنفق ملايين الدولارات على الحملات، وتُستخدم الأموال لشراء الأصوات، وتمويل الإعلام، وتقديم الرشى. هذا المال لا يأتي من مصادر شفافة، بل غالبًا ما يكون مرتبطًا بفساد أو دعم خارجي، مما يُفقد العملية الانتخابية نزاهتها.

المواطن، الذي يُعاني من الفقر والبطالة، يجد نفسه أمام إغراءات مالية تُقدّم له في موسم الانتخابات، ثم تُسحب منه بعد انتهاء التصويت. وهكذا يُصبح المال أداة لإسكات المطالب، وتكريس الهيمنة، وإعادة إنتاج الفشل.

الطائفية والمحاصصة: جدران تفصل المواطن عن الدولة

منذ سنوات، تُدار الدولة العراقية وفق نظام المحاصصة الطائفية، الذي يُقسّم المناصب والقرارات بناءً على الانتماء لا الكفاءة. هذا النظام يُكرّس الانقسام، ويُضعف مؤسسات الدولة، ويُهمّش المواطن.

فالناخب لا يُعامل كمواطن، بل كعضو في طائفة أو قومية، تُستخدم صوته لتعزيز النفوذ لا لتحقيق المصلحة العامة.

الطائفية تُحوّل الانتخابات إلى معركة هويات، وتُبعدها عن جوهرها الديمقراطي. والمواطن، الذي يُريد خدمات وفرصًا وعدالة، يُجبر على الاختيار وفقًا لانتماءات لا تعنيه، مما يُعمّق شعوره بالاغتراب داخل وطنه.

هل من أفق للتغيير؟

رغم كل هذه التحديات، يبقى الأمل قائمًا. فالمواطن العراقي أثبت في أكثر من مناسبة أنه قادر على المقاومة، وعلى المطالبة بحقوقه. الحركات الاحتجاجية، مثل انتفاضة تشرين، تُظهر أن هناك وعيًا متزايدًا، ورغبة حقيقية في التغيير. هذا الوعي يجب أن يُترجم إلى فعل سياسي منظم، يُعيد للمواطن دوره، ويُعيد للانتخابات معناها.

التغيير لا يأتي من الأعلى، بل من القاعدة. والمواطن هو حجر الأساس في أي إصلاح. إذا ما تمكّن من تجاوز الانقسامات، وتنظيم صفوفه، ومحاسبة ممثليه، فإن الانتخابات يمكن أن تتحول من أداة خداع إلى وسيلة بناء.

خاتمة: بين المطرقة والسندان، يولد الحديد

المواطن العراقي يعيش بين مطرقة الوعود وسندان الانتخابات، لكنه ليس هشًا. بل هو كالفولاذ، يُصقل بالألم، ويُقوّى بالتجربة.

وما بين الخذلان والأمل، تتشكل إرادة لا تُكسر. هذه الإرادة هي مفتاح التغيير، وهي التي ستُعيد للوطن معناه، وللديمقراطية روحها، وللمواطن كرامته.

فليكن الصوت الانتخابي صرخة وعي، لا مجرد إجراء. وليكن المواطن هو من يُمسك المطرقة، لا من يُضرب بها.


مشاهدات 81
الكاتب عبد الستار الراشدي
أضيف 2025/08/09 - 3:33 PM
آخر تحديث 2025/08/10 - 3:27 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 114 الشهر 6830 الكلي 11401916
الوقت الآن
الأحد 2025/8/10 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير