الثقافة للجميع تناقش أدب الرحلات
بغداد - الزمان
في أجواء من التفاعل الثقافي والنقاش المعرفي، انعقدت جلسة بعنوان “أدب الرحلات: ملتقى الفنون ومرآة التراث الشعبي”، حيث تناول الحضور هذا الجنس الأدبي العريق بوصفه مجالا يجمع بين الأدب، والتاريخ، والفن، والجغرافيا، وينقل عبره الكتاب تجاربهم وانطباعاتهم عن الأماكن والشعوب، مرسخين ذاكرة حية للثقافات والمجتمعات.وبحضور رئيس الجمعية عبد جاسم الساعدي وبادارة الشاعر جاسم العلي تمت استضافة الناقد والرحالة حمدي العطار ليقدم محاضرة بعنوان:
أدب الرحلات: ملتقى الفنون ومرايا التراث الشعبي
جاء فيها:
في زمن تتسارع فيه حركة العولمة وتتآكل فيه الخصوصيات الثقافية، يظل أدب الرحلات من أبرز الأجناس الأدبية القادرة على توثيق تفاصيل الشعوب، ليس فقط من خلال المشاهدات، بل عبر التماس المباشر مع الروح الحية للثقافات. فهو ملتقى للفنون، ومرآة تعكس تداخل التراث الشعبي مع الأدب والموسيقى والعادات والتقاليد.
وفي هذه الجلسة الثقافية، نقترب من هذا اللون الأدبي، محاولين فهم كيف يتحول الرحالة إلى راوٍ، والمؤقت إلى دائم، والعابر إلى شاهد على عصرٍ وثقافة وهوية.
النص:
إن أدب الرحلات لا يقتصر على كونه وسيلة لرصد الأمكنة وتفاصيل الشعوب، بل هو فعل استبطان داخلي أيضا؛ إذ يعين الرحالة على اكتشاف “الآخر” وفي الوقت ذاته، يعيد تشكيل رؤيته لذاته.
يتميّز هذا الأدب بأنه الجنس الأدبي الأكثر التصاقا بـالتراث الشعبي، فهو يسجل الطقوس والعادات وأساليب العيش، ويمنحها بعدا إنسانيا وجماليا.
وقد جاءت رحلاتي إلى عدد من البلدان مثل الهند، كازاخستان، ماليزيا، وإيران، بمثابة تجارب عميقة لاكتشاف خصوصيات كل مجتمع، والتقاط الفروقات الدقيقة التي تميّز ثقافة عن أخرى.
• في الهند، وجدت نفسي أمام مشهد ثقافي غني، خاصة عند مشاركتي في طقوس الزفاف لدى الطائفة الهندوسية، حيث للحناء والرز والخواتم والألوان رمزية شديدة العمق. كما أدهشتني «الكافات الخمس» لدى طائفة السيخ، والتي تمثّل فلسفة دينية وسلوكية تقوم على النقاء والصدق.
• أما في كازاخستان، فقد شدتني العلاقة التاريخية بين الإنسان والحصان، لا باعتباره وسيلة نقل، بل كرمز وطني مقدس، يرتبط بالهوية والانتماء، وتحيط به طقوس فلكلورية تحتفي بالضيافة والشجاعة.
• وفي ماليزيا، انبهرت بكيفية تعايش المجتمع متعدد الأعراق، حيث تتجاور الطوائف الملايوية والصينية والهندية رغم ماضٍ استعمارِي صنع من البلاد ما يشبه «جحيما عنصريا». لكن الماليزيين استطاعوا بناء «جنة تعايش» بفضل العدالة الاجتماعية وتوازن الحقوق.
• أما إيران، فكانت بمثابة فسيفساء ثقافية. زياراتي المتكررة، خاصة لحضور معرض السياحة الدولي، أتاحت لي التعرف على تنوع هائل في العادات واللهجات والفنون، وأثارت في ذهني الفرق بين الثقافة كسلوك حي يومي، والحضارة بوصفها منجزا ماديا وتاريخيا.إن أدب الرحلات ليس مجرد نقل للمشاهد، بل هو توثيق صادق للتنوع الإنساني، ومحاولة لفهم العالم بعين المحبة والانفتاح. ولأن الرحالة هو فنان أيضا، فعليه أن يكون محايدا، صاحب ذاكرة حية وقلب مفتوح، وأن يحمل مسؤولية تقديم الآخر بصدق وإنصاف.
من هنا، يمكن اعتبار هذا الأدب ملتقى للفنون، تتقاطع فيه السرديات الشعبية، والموسيقى، والفنون البصرية، والحكايات، في عمل واحد نابض بالحياة.
فهل يمكننا أن نعيد اليوم الاعتبار لهذا الفن الجميل؟ وهل ما زال هناك من يسافر ليكتب، لا ليستهلك؟
أسئلة نتركها مفتوحة لنتأملها معًا.
مداخلات الجلسة
• الدكتور كاظم المقدادي أشار إلى أهمية وجود منهج محدد يضبط إيقاع الكتابة في أدب الرحلة، وركز على ميزة الإقامة الطويلة في الأماكن الأجنبية، والتي تمنح الكاتب فرصة لفهم أعمق للتفاصيل الحياتية والثقافية مقارنة بالرحالة العابر الذي يكتفي بالمشاهدة السريعة والانطباعات العامة.
• الدكتور سمير خليل ركز على دور الخيال في الكتابة الإبداعية، مؤكدا أن هناك تقاطعات كثيرة بين أدب الرحلة والرواية، خاصة من حيث السرد وبناء الصور.
• أما الروائي خالد ناصر ناجي، فتناول جانبا شخصيا من تجربته، مشيرا إلى التغيرات التي تطرأ على الأمكنة مع مرور الزمن. وقدّم مثالا على جزيرة «كيش» الإيرانية، التي كانت في ذاكرته زمن الحرب موقعا لصراع الناقلات، لكنها أصبحت الآن وجهة رومانسية يقصدها السائحون من كل الأعمار. وأكد أهمية الكتابة عن تفاصيل الطريق، مستشهدا بخط السير بين محافظتي الحلة والنجف.
كما طرحت تساؤلات من بعض الحاضرين حول إمكانية الكتابة عن رحلات مضى عليها عقود طويلة، وما إذا كانت هذه التجارب، عند استعادتها اليوم، يمكن أن تعد جزءًا من أدب الرحلة.
تعقيبات الجلسة
جاءت المداخلة الختامية لتؤكد أن الإقامة الطويلة في بلد أجنبي، سواء لغرض الدراسة أو المعيشة، تعد تجربة صالحة لأدب المذكرات، كما فعل طه حسين في مذكراته “الأيام”.
كما تم التأكيد على أن أدب الرحلة جنس متعدد الهوية، يتغذى من كل الأجناس الأدبية، ولا يخضع تماما لقواعد جامدة، بل يستفيد من تقنيات السرد، والوصف، والتحليل، وحتى الشعر.
واُشير إلى أن تطور وسائل النقل قلل من فرص التفاعل المباشر مع تفاصيل الطريق، في حين أن الرحلات السياحية الجماعية (الكروبات) غالبًا ما تُفقد الكاتب تلك اللحظة الفردية التي تنتج عنها كتابة حقيقية وعميقة.
أما عن العلاقة بين أدب الرحلة والرواية، فقد اتضح أن الكثير من الروائيين يوظفون رحلاتهم ومشاهداتهم في نصوصهم، ويمزجون بين الخيال الروائي والواقعية المكانية، وهو ما فعله الرحالة حسن البحار وغيرهم من كتّاب الرحلات المبدعين.
خاتمة
خرجت الجلسة بجملة من الرؤى التي تؤكد أن أدب الرحلة ليس مجرد تدوين لرحلة عابرة، بل هو فن مركب يرصد التحولات، ويجسد الذاكرة، ويعيد إنتاج الأمكنة من خلال ذات كاتبة متفاعلة.فهو ملتقى للفنون، لأنه يستعير من كل جنس أدبي ما يخدم غايته، وهو مرآة للتراث الشعبي، لأنه يخلد العادات والتقاليد من خلال العين الرحالة.