يا عود دندن حزن .. الغائب الذي عاد
فاضل البدراني
سافرت الأم إلى بيت شقيقها في محافظة بعيدة، بينما بقي طفلها الوحيد، ذو السبعة أعوام، عند جدته في بيت العائلة. رفض الطفل مرافقة أمه لأنه يحب أصدقاءه وبساتين النخيل التي تنتظر نضج الرطب.
لكن بعد مرور 90 يومًا من الفراق، استيقظت الأم فجراً وهي تصرخ باسم طفلها. حلمٌ مفزع زلزل كيانها، شعرت في أعماقها أن ابنها في خطر، ربما غرق أو صدمته سيارة. لم تُصدقها عائلتها، لكن قلبها لم يهدأ، فقررت السفر فورًا، رغم صعوبة الطرق وظروف الزمن الذي لم يكن فيه هاتف ولا وسيلة تواصل.
طوال الطريق، كانت الأم تهذي، تبكي، تهمس لولدها، تصلي، وترجف من الخوف، ترفض الأكل، ترفض التوقف. كانت ترى صورته على الطريق، تسمع صوته، وتحاوره كأنّه معها.
عندما وصلت، لم يخرج طفلها كعادته ليحضنها. لم يركض نحوها. فقط أخوها الصغير كان يبكي. ففهمت أن فاجعة حلّت.
سقطت على الأرض تصرخ: “وينه وليدي؟ ردّوا عليه!”
ولم يرد أحد.
لكن الحقيقة لم تكن موتًا… بل خطفًا من نوع آخر.
أخبروها أن أهل الطفل من جهة أبيه حضروا وأخذوه قسرًا، مستغلين غيابها.
بكَت، صرخت، تساءلت من يطعمه، من يغسله، من يلبّيه حين يبكي؟
قالت لأمها: “أنا بدون ابني أموت.”
وفي زاويةٍ بعيدة، في بيتٍ غريب، كان الطفل يحتضن عودًا صغيرًا يشبه الذي في بيت أمه، يهمس له:
“يا عود دندن حزن…”
ثم يبكي بصمت، يشتاق لصدر أمه، لرائحتها، لصوتها… ولا أحد يفهمه!
□ □ □
في بيت والده، جلس الطفل ذو السبعة أعوام قرب نافذةٍ تطلّ على الغياب. سجينُ حنينه، ينتظر وجهًا يعرفه، صوتًا يألفه، أو حضنًا يعيده إلى الأمان.
كان يسأل نفسه كل يوم:
هل عادت أمي من رحلتها؟
هل ما زالوا يذكرونني؟
هل يأكلون كما كنت أفعل بينهم؟ أم أن الزمان ابتلعني؟
لم يفهم كيف اختفى ذلك الحضن، ولماذا عليه أن يعيش بين جدران لا تنتمي لقلبه، وإن غمرته أحيانًا بشيء من الحنان.
ثم جاء “أبو نجم”، رجل طيب من جيران بيت جدّه. التمع الأمل في عينيه الصغيرة، لكنه لم يدم… فالحكاية لم تنتهِ كما ظن.
بعد تسعين يومًا من الانتظار، جاءت “الحاجة سعدة”، جدته، بصوتها الجهوري وكرامتها التي لا تُرد. خاطبت الأب بلهجة عراقية خالصة:
“أبو فلان، طلبته منك… وأنا من خالاتك.”
فردّ بكلمات أعادت الحياة لقلب الطفل:
“تبشّرين خالة… يروح وياك.”
أمسكت الجدة بيده، ومشى معها كغزال صغير نحو الحلم. أربعة كيلومترات قطعها قلبه قبل قدميه، وكلما اقترب، قال لها بأنفاس لاهثة:
“جده، أسرعي… اليوم أعود.”
ثم لمح جمعًا من الناس…
وفي وسطهم، كانت الأم، واقفة كالشمس بعد الغياب.
ركض، صرخ، انهار…
وصاحت أمه:
“وليدي! وليدي!” وسقطت على الأرض.
تعانقا، بدموعٍ اختزلت تسعين يومًا من الغربة،
وكان اللقاء… ولادة جديدة لطفل، عاد إلى حضن الحياة
□ كاتب وأكاديمي عراقي