بغداد لن تكون مدينة أخرى
ثامر محمود مراد
بغداد ليست مجرد عاصمة؛ إنها ذاكرة حيّة، ونبض مستمر لتاريخٍ ضارب في عمق الحضارة. مدينةٌ تحمل بين أزقتها عبق الزمن، وتستمد سحرها من تناغم خضرتها مع طابعها التراثي الفريد، ومن دفء ناسها البسطاء الذين يرسمون ملامحها اليومية. واليوم، وسط موجات التمدّن المتسارع، تواجه بغداد تحديًا وجوديًا، ليس في قلة الإمكانيات، بل في التوجهات التي تسعى لطمس هويتها، تحت شعار “التطوير”.
هناك فارق جوهري بين التطوير والتشويه. ليست الحداثة نقيضًا للجمال، ولكن عندما يُضحّى بالأشجار المعمرة، ويُستبدل التراب بالخرسانة، والحديقة بالمرآب، فإننا لا نبني مدينة حديثة، بل ندفن مدينة قديمة كانت تنبض بالحياة. بغداد لا تحتاج إلى ناطحات سحاب تستعرض الثراء، بل تحتاج إلى قانون يحمي وجهها الحقيقي، وإلى وعي يعيد إليها احترامها كعاصمة ذات هوية متجذرة.
إن الحديث عن الاستثمار لا يعني بالضرورة اقتحام قلب العاصمة بالإسمنت والزجاج الأزرق. يمكن التوجه إلى أطراف المدينة، لتُقام هناك مجمّعات سكنية تلبّي حاجات مختلف شرائح المجتمع، دون أن تهدد البيئة أو تُقزّم الذاكرة المعمارية لبغداد. هذا التوازن هو ما تحتاجه العاصمة لتنهض، لا اجتثاث ما تبقّى من جمالها الصامت.
كل نخلة تُقلع، وكل ياسمينة تُجتث، وكل رصيف يُطمس، هو جرح في جسد المدينة. نحن لا نفتقر إلى المساحات، بل نفتقر إلى من ينظر للأرض بعين العطاء لا بعين الطمع. بغداد كريمة، تُنبت الأشجار، وتمنح السنابل، ولكنها باتت تعاني من كثرة الأيادي التي تهدم أكثر مما تبني.
بغداد لا تريد أن تكون نسخة من مدينة أخرى. هي بغداد، وهذا وحده يكفي.