همسات ساخنة .. ومضات هادئة
صلافة دبلوماسية لا تخلو من منطق
لويس إقليمس
في المشهد الدرامي المثير للشفقة الذي جمع قبل أيامٍ بين رئيس أقوى دولة في العالم، أميركا، ونائبه المتملّق «اللوكي» في البيت البيضاوي مع رئيس دولة أوكرانيا المعتدى عليها أمام الأشهاد والمحذورة في اختيار حرياتها الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية والجيوسياسية وما سواها، يتراءى للمراقب الذكي واللاعب الحاذق عدم خلوّه من شيءٍ من المنطق السياسيّ بالرغم من فداحة الأسلوب التعسّفي في هذا الأخير وصولاً لترويض وإقناع الطرف الخاسر الذي بدا هشًّا ومسلوب الإرادة أمام «جبابرة دوليّين». ففي السياسة كواليس ودهاليز وممرات ضيقة قد تتسع وفق الوقائع والأحداث لتنتقلَ إلى شوارع وطرق رحبة من شأنها أن تُبهر المراقب والمتابع والمواطن الذي يمحّص في هذه جميعًا ويتمنى بلوغَها في كلّ ما يجيش في خلدِه من تمنيات وطموحات ورغبات. وبالرغم من أنّ هذه الأخيرة هي الأخرى، قد لا تخلو من صلات المقبول في تبنّيها وتحقيقها لذات المنطق السياسيّ «الصلف» في التصرّف والسلوك الآدميّ من أطرافٍ آنيّة واقعية تسوسُ البلدان وتسعى لجعل العالم أكثرَ أمانًا وهدوءً وسلامًا بسبب تصاعد النزاعات والصراعات ووسائل الاقتتال بشتى صنوفها كما تدّعي هذه الأخيرة، إلاّ أنّها تبقى في مرمى الانتقاد والمحظور كلّما تمّ الإيغال بمقاربتها مع سمة السطوة والتسلّط والاستعلاء والعنجهية من طرفٍ على حساب طرفٍ آخر أو أطرافٍ محيطة ذات صلة. وطالما أنّ هذه أيضًا ترتبط في النتيجة بمفهوم تحقيق المصالح القومية أو الإقليمية أو الفئوية أو الطائفية أو الدينية التي هي بالتالي ديدنُ أغلب الزعماء والساسة والرئاسات، فهي قد تبدو للبعض مشروعةً ومتاحة ومقبولة أحيانًا في استخدام مفهوم «الصلافة الدبلوماسية» المعمول به هذه الأيام من أجل بلوغها بالأسلوب ذاته الذي جرى في الاجتماع الدرامي المذكور مثير الجدل ونادر الحصول تاريخيًا ودبلوماسيًا في مثل هذه اللقاءات والاجتماعات والمؤتمرات.
صحيحٌ أنه عندما تتقاطع المصالح الاقتصادية والنزعات المادية والتطلعات الفكرية مع الإرادات الصلبة لجهات متخالفة في الرؤى والأفكار والأهداف بداعي السعي للحفاظ على تركيبة خاصة لأيّ مجتمع أو الإبقاء على هيكلية معينة لاية دولة تعتزّ باستقلاليتها وحرية منطقها في تسيير شؤون مواطنيها وسكانها وثرواتها وتطلعاتها، فإنَّ أيَّ تدخلٍ خارجيّ لحسم الموضوع من أساسه وفق متطلبات الكبار ومنطقهم وتقنياتهم السلطوية على حساب طرفٍ يبدو ضعيفًا في المنظور العام، لن يكون مقبولاً أو مستساغًا أو حتى أخلاقيًا.
علاج شافي
وهنا يكون الطلاق والتضحية بالطرف الهشّ الضعيف على حساب الطرف الآخر الأهوج المتصلّب هو العلاج الشافي، بالرغم من كونه قرارًا تعسفيًا ومكروهًا وغير مقبولٍ، لا دبلوماسيًا ولا أخلاقيًا ولا إنسانيًا. ولكون الطلاق هنا سيكون لأجل الصالح العام من وجهة نظر الكبار والأقوياء والزعامات والرئاسات، سواءً كانت النوايا تتحرّى تحقيقَ المصالحة والسلام من خلال القوّة كما يُدّعى، أو بهدف محاولة فرض إرادة الواقع السياسي الجديد بالإتيان بوجوه جديدة لتبييض الصورة الإنسانية والأخلاقية ونصاعتها أمام العالم، فإنّ مثل هذا القرار الجائر والمتسرّع قد يصيرُ مقبولاً وحتى منطقيًا من وجهة نظر أطرافٍ مراقبة ومتفرّجة على المشهد السياسي الدولي في عمومِه. وهذا ما سيًصارُ إليه في موضوعة أوكرانيا قريبًا بالرغم من كونها بلدًا ذا سيادة وله من مقوّمات الدول المتنازعة في المنطقة بل وضمن المحيط الغربي الأوربي الذي تتواجد ضمنه أراضيها وما فيها وما عليها من ثروات معدنية وطاقات صناعية كان لعابُ الكثير من الدول سواءً المجاورة لها أو عبر المحيطات يسيلُ لها دومًا حتى قبل تفكّك الاتحاد السوفيتي واستقلالها عنه بفضل هذه الأدوات والماديات والوقائع جميعًا. وبالنتيجة سيرضخ الرئيس الأوكراني وبلدُه، الذي لا أوراقَ تفاوضية قوية بين أياديه كما وضّحها له الرئيس الأمريكي الصلف القوي دونالد ترامب أمام الملأ، لكلّ ما سيمليه عليه الفريق التفاوضي الأمريكي بعد الاتفاق ضمنيًا ومن خلف الكواليس مع الفريق الروسي الذي سيعمل ويتصرّف بإرشادٍ وتوجيهٍ صارمٍ من الثعلب الروسي فلاديمير بوتين.
ما يهمّ المجتمع الدولي في هذه الحادثة الصلفة النادرة تاريخيًا على مرّ العهود السياسية والدبلوماسية، يكمنُ في العبرة التي ينبغي للعالم أن يعتبرها بعد أن تلقي الحرب القاهرة والضروس بين الدولتين الجارتين أوزارَها بالطريقة التي أرادها وفرضَها رئيس أعتى دولة في العالم. فعندما جنحَ البعض من المعلّقين والمراقبين والساسة لوصفها بالحرب بالوكالة بين الغرب - الأوربي (الديمقراطي) مع وريث أشرس حلفٍ تاريخيّ اشتراكيّ - شيوعيّ (دكتاتوري)، فذلك من منطلق الصراع على المصالح العليا بين الكبار وفق مفهوم السيادة على العالم وضرورة توجيه دفتِه بالطريقة التي تخدمُ مصالحهم ومصالحَ بلدانهم على السواء، وتصون توجهاتهم الاستغلالية عبر نظرية فرض «السلام من خلال القوّة». وهذا ما تطبقُه الإدارة «الترامبية» بنسختها الأمريكية ال 47 عبر تسخير كلّ حدثٍ وكلّ واقعة لصالح أميركا كي تبقى الأقوى والأكثر ردعًا عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا عبر هذه النظرية. وما على غير أوكرانيا من الدول والكيانات والشعوب المعترضة سوى تعلّم العبرة والقبول بالواقع الدولي الجديد ومنها شرقنا الأوسطي العربي والإسلامي الذي سيتعرّضُ ربما لذات الحال والمآل والوقائع بدفعٍ من ذات الأهداف الإمبريالية التي تتحكم بها زعامات المال ومَن بأياديها منالُ الثروات وساسات الدول والشعوب بالطريقة التي تختارُها هي وفي الوقت والزمان والمكان الذي تريدُه وتفرضُه سواءً بالقوّة السياسية أو الاقتصادية أو بغيرها. وهنا لن يكون أمام الزعامة الأوكرانية التي تعاطف غالبية المجتمع الدولي مع شعبها ورئاستها المغلوبة على أمرها وغيرها من المعترضين أو الرافضين لمفهوم التفاوض سوى القبول بهذا المفهوم العقلاني عبر تنازلات متقابلة حفاظًا على سكب المزيد من الدماء البريئة وسقوط ضحايا لا ناقةَ لهم في مثل هذه الحروب العبثية ولا جمل.
فكر استعماري
تلكم ستكون حالُ غيرها من الدول والجهات والمجتمعات المحصورة في أزمات شبيهة غالبيتُها من صنع دعاة الفكر الاستعماري السابق وأدواته الموروثة. وهنا يكون «البحث عن إنسانية تسمح بخلق شروطٍ لحلول دبلوماسية بحثًا عن سلام عادل ومستدام»، عملاً شجاعًا بحدّ ذاته عبر التفاوض بمساعدة وسطاء دوليين قادرين على حفظ سفك الدماء وهدرها بغير حق، كما صرّح «بابا الفاتيكان فرنسيس» مؤخرًا. كما أنّ القبول بالتفاوض من أجل غاية أسمى تتمثل بالمسعى الإنساني لبلوغ السلام وراحة البشر والشعوب لن يكون ركوعًا أو خنوعًا عندما يتعلق الأمر بحفظ كرامة الإنسان وحقه في العيش بسلام في وطنه وعلى أرضه، وليس وفق مبدأ بعض زعامات العالم الاستكبارية الباحثة دومًا عن اسبابٍ تافهة للاقتتال من أجل الاقتتال ذاته وتكرار دولاب العنف الدائر منذ قرونٍ بلا هوادة وشحن النزاعات وتصاعد الشرّ.
والأكثر مرارة وتعاسة عند استغلال بعض الدول الانتهازية لعملائها وأدواتها الإقليمية لإدارة حروبٍ بالوكالة عنها.
كما هي الحال في منطقتنا المنكوبة منذ عقود بحروبٍ طائفيــــــــــة وفئوية ضيقة تحت راية الدفاع عن الدين والمذهب والطائفة. ومن حقنا أن نتسائل: هل فرغت بلدانُنا ومجتمعاتُنا وشعوبُنا من العقلاء والحـــــــــــكماء وسادة القوم الذين اختفوا عن المشهد ليظهر بديلاً عنهم أشرارٌ تافهون ولصوص عتاة وزعاماتٌ فاسدة تعمل وفق أجندات خارجية مشــــــــــــــبوهة ولا تحمل في ثناياها روح الانتماء الصحيح للوطن والعمل المطلوب لصالح الشعب؟
وهنا فقط يكون البحث عن مفهوم المنطق الصحيح في الحرب والسلم من منطلق السؤال عن الصالح والأفضل للوطن والشعب والعالم.