الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
كوم الدكة والمدرج الروماني حي آثاري عتيق في قلب الإسكندرية

بواسطة azzaman

لمحات من أرض الكنانة مصر العربية

كوم الدكة والمدرج الروماني حي آثاري عتيق في قلب الإسكندرية

رعد أبو كلل الطائي

 

في صباحٍ بهيٍ من تلك الصباحات المشرقة في مدينة البحر المتوسط الإسكندرية، والتي بدأت بنسيم عليلٍ وباردٍ وجميلٍ، والشمسُ تتسللُ بخيوطِها الذهبية على شواطئ البحر المتوسط، أتخذتُ مكاناً في كافتريا الزهراني المطلُ على أحد شواطئ الإسكندرية، وجلستُ هادئاً في أحد زواياهُ، ولاحت أمامي مجموعة من الشباب، عرفتُ من خلال كلماتهم ولهجتهم إنهم من الإسكندرية، وكان جُلَ حديثهُم وكلماتهم يمتدُ في أذني أطول مما ينبغي ويبدو إن حديثهم كان يدور عن حيٍ غريبٍ في الإسكندرية، لم أسمع أو أعرف عنه شئٍ من قبل (كوم الدكة والمسرح والمدُرج الروماني)، فزادني حينها فضولاً للجلوس معهم والحصول على معلوماتٍ عن هذا الحي فجلستُ بجوارهِم  بعد أن رحبوا بيَّ كثيراً حين عرفوا إني قادمٌ من العراق وقال أحدهُم  بالحرف الواحد، إن أبي كان يقول لنا (إن لحم أكتافنا جُلهُ من خير العراقيين)، فقلتُ لهم إن عدد العاملين من الأخوة المصريين في العراق في ثمانينيات القرن الماضي كان يبلُغ أكثرَ من ستة ملايين عامل وفني، وهم دوماً كانوا مرحبين من العراقيين وكان أحد من بين الجالسين يحملُ باجاً تعريفياً بنفسهِ، إنه مندوبٌ لِأحدى الشركات السياحية في الإسكندرية فطلبتُ منهُ تزويدي بمعلومات تأريخية وآثارية عن (حي كوم الدكة والمسرح والمدُرج الروماني)، فأوجز حديثه بالقول  :

كوم الدكة هي إحدى مناطق الإسكندرية التأريخية، وتتبع حالياً حي وسط الإسكندرية وتعلو على دكة (دجة)  وترتفع عن منسوب البحر بواقع ثمانية إلى عشرة أمتار في منطقة متوسطة بين المناطق السياحية الآثارية والمحاور التجارية لوسط المدينة، وهو تل صناعي تكون من ردم المباني التي تهدمت وتراكمت فوق بعضها، ويُعتبر هذا الحي العتيق بؤرة المنطقة الآثارية في الإسكندرية، ولا يزال إلى اليوم مليئاً بالحفريات والآثار وربما يكون من بينها قبرُ الأسكندر الأكبر نفسه، كما أُستعملتّ المنطقة كمقبرة في العصر اليوناني والروماني وعصر المماليك .

وأضاف، وعُرفتّ المنطقة قديماً بأسم (باكرو بوليس) أي المكان المرتفع عن المدينة التي أُقيمت عليها المعابد والمباني الدينية، وذلك أسوةً ببلاد اليونان التي كان بها الأكبر بول، ويرجح إطلاق أسم (كوم الدكة) على هذه المنطقة إلى القرن التاسع عشر الميلادي، عندما مَرَّ عليها المؤرخ التويري الإسكندراني وشاهد هذا التل الترابي والموقع المرتفع الذي يشبه (الدكة)، والناتج عن أعمال حفر ترعة المحمودية في عصر محمد علي باشا الكبير، إذ تكون هذا التل الترابي من أكوام التراب المدكوك، وأنتشرت في الإسكندرية حينها أسطورةً قديمةً في غاية الغرابة حول حي (كوم الدكة) أحد أشهر أحياء الإسكندرية والأسطورةُ تقول :

إن الأسكندر الأكبر كان يجلس على أريكة (دكة) بالعامية، مصنوعةً من الذهب، ومُطعمةً بالماس والياقوت والجواهر النفيسة وعندما قرر القيام بحملة من حملاته العسكرية إلى خارج البلاد، خشى على الأريكة من السرقة فجاءَ بأحد المهندسين وكلفهُ ببناء غرفة تحت الأرض وضع فيها الأريكة، ثم قام بقتل المهندس الذي يعرِف السر حتى لا يكون هناك من يعرف مكان الأريكة غيره، وأمرَ بردمّ  المكان كُلهُ دون أن يضع فيه ما يُشير إلى مكان الأريكة النفيسة المدفونة ولم يعُد الأسكندر الأكبر الى الإسكندرية، ومات في تلك الغزوة التي كانت آخر غزواته، وبقى مكان الأريكة مجهولاً إلى يومنا هذا، لكنه أشتهر بأسم (كوم الدكة) .

تخطيطّ الحي وتقسيّماتهُ

أما بخصوص تخطيط الحي وتقسيّماتهِ فيذكُر الأستاذ الدكتور ظاهر محمد الصكر الحسناوي أستاذ التأريخ الحديث والباحث والمؤرخ إن حي (كوم الدكة)، يتوسط الإسكندرية، فيُقَسمُها إلى قسمين، أحدهُما يضم أحياء وسط البلد الراقية، فيما يضُمّ القسم الثاني أحياء المدينة القديمة، ويتميزّ الحي بأنه مُقامٌ على ربوةٍ عاليةٍ ترتفع عن الشوارع التي تحدُها من الجهات الأربع بنحوِ ستين متراً تقريباً، وهو ما يؤكد العديد من الدراسات الآثارية التي تقول  :

إن الحي على صورتهِ الحالية، يقبَعّ فوقَ كنزٌ من الآثار التي يرجعُ بعضُها إلى العصور الفرعونية، وبعضُها الآخر إلى عصور اليونان والرومان، فيما تؤكد دراسات أُخرى إن الحي ينتصبّ فوقَ واحدةٌ من اهم القلاع القديمة، في حين يذهب كثيرٌ من مؤرخيّ وآثاريّ الإسكندرية في عصرها الحديث، ومنهم الأستاذ عزت زكي احمد قادوس في كتابه (الحظائر الآثارية في الإسكندرية)، والذي يقول :

إن منطقة كوم الدكة بُنيتّ على صورتها الحالية قبل مئات السنين على أنقاض منطقة تضمُ قبورَ عددٍ من الملوك القُدامى، بل إن بعضُهم يذهبّ إلى القول  :

إن المنطقة تضُمُ من بين ما تضمُ المقبرةَ التي دُفِنَ فيها الأسكندر الأكبر المقدوني مؤسس الإسكندرية.

 في عصر البطالمة الأول، وبعد وفاة الأسكندر الأكبر، كان البطالمة حريصين على تقسيم المدينة إلى ثلاثة أحياء هي :

1- الحي اليوناني أو حي برثوم .

2- الحي المصري، حي ( راكتوس والمعروف الآن بكوم الدكة) ٠

3- الحي اليهودي في المنطقة الشرقية للمدينة ٠

مبنى المسرح والمدُرج الروماني

بعدَ هذا السرد عن الحي والمسرح، شدنيّ شغفاً لرؤيتهما، فأمضيتُ نحو ظالتي، وسلكتُ الطريق المؤذي إلى (كوم الدكة) من خلال صعودي ترام الرمل، ونزلتُ في محطتِها ودخلتُ شارع صفية زغلول، ومشيتُ راجلاً فإذا أنا أمام دليل خروجات مطاعم الإسكندرية، حتى وصلت إلى المسرح الروماني وسط حي (كوم الدكة)، وعند المبنى ظهر أمامي عددٌ من الآثاريين الذين كانوا يتحدثون عن هذا المعلم التأريخي والآثاري العريق، وقال أحدهُم  :

أُكتشفَ هذا المبنى بالصُدفة أثناء إزالة الترُاب للبحث عن مقبرة الأسكندر الأكبر بواسطة البعثة البولونية في عام 1960 ميلادي، وأطلق عليه الآثاريون أسم المسرح الروماني، عند أكتشاف المُدرجات الرخامية، وثارَ جَدلٌ كبيرٌ حول وظيفة هذا المبنى الآثاري، وقد أستغرق التنقيب عنه حوالي 30 عاماً، وواصلت البعثة البولونية بحثها بالأشتراك مع جامعة الإسكندرية إلى أن تمَ أكتشاف بعض قاعات للدراسة، بجوار هذا المُدرج في شهر فبراير من عام 2004 ميلادي، وهذا سوف يُغيّر الأتجاه القائل بأن المُدرج الروماني هو مسرح، فهذا المُدرج من المُمكن أن يُستخدم كقاعة محاضرات كبيرة للطلاب، وغالباً ما كان يُستخدم هذا المسرح للأحتفالات

وبين الآثاري :

لقد صُممَ مبنى المُدرج على شكلِ حدوةَ حصانٍ أو حرف U، ويتكونّ من 13 صفاً من المُدرجات الرُخامية مُرقمةً بحروفٍ وأرقامٍ يونانيةٍ لتنظيم عملية الجلوس، وأولُ صفوف  هذه المُدرجات تتسعُ لحوالي 600 شخصٍ وهي مصنوعةٌ من الكرانيت الوردي، في حين يوجد أعلى هذه المُدرجات خمسُ مقصوراتٍ لم يتبقَ منها سوى مقصورتان، وإن سقفُ هذه المقصُورات ذو قبابٍ تستندُ على مجموعةٍ من الأعمدةِ بينما كانت المُدرجات تستندُ على جدارٍ سميكٍ من الحجر الجيري يُحيطُ به جدارٌ آخر وقد تم الربطُ بين الجدارينِ بمجموعة من الأقواسِ والأقبية، ويُعتبرُ الجدارُ الخارجيُ دعامةٌ قويةٌ للجدار الداخلي، كما توجد صالتان في المبنى مُطعمةً بالموزائيك وبزخارف هندسية في المدخل الذي يقع في جهة الغرب من المسرح ٠

وزادَ دليلُنا الآثاري قولهُ :

عندما دخلَ العرب الإسكندرية، كان المُدرج الروماني ما زال أجزاءٌ منه ظاهرةٌ، والمُدرجات كانت بالنسبة لهم (دكك مكان الكوم)، وله أسمان، كوم الديماس، وكوم الدكك أي أماكن الجلوس في المُدرجات، ومع مرور الأيام والزلازل التي كانت تضرب الإسكندرية، أُستخدم المكان لجمع رُكام المباني المُنهارة في المدينة، وفي بعض العصور أُستخدم كمدافن حتى أختفى المُدرج الروماني أسفل (الكوم) ولكن ظلتّ التسمية (كوم الدكك) التي خُففتُ إلى (كوم الدكة) إلى أن ظهر المُدرج الروماني أسفلَ (كوم الدكك)، عِندَ إزالة طابية (كوم الدكة) في الستينيات من القرن الماضي وإزالة جزء من الكوم، إذاً فالمسرح والمدُرج الروماني أرضيته هي الصخرة الأساسية التي بُنيتُ عليها مدينة الإسكندرية، وهذه الصخرة هي التي بنى عليها المهندس (دينو قراطيس) الإسكندرية القديمة، وما فوقها، وهي تراكماتٌ وطبقاتِ أرضيةٌ تكونتّ خلال 3300 عامٍ، وكان البطالمةُ والرومانُ يحفرون في باطن هذه الحُفرة لعمل المدافن مثل مدافن الشاطبي أو (الكيتا كومب) ٠

أغلبية شعبية

وبناءً على ما تقدم أختُمّ كلامي فأقول  :

في عصر محمد علي باشا الكبير أُعيد تخطيط مدينة الإسكندرية، وأصبح (كوم الدكة) في مركز الدائرة وتقودُ شوارعه الضيقة الصاعدة والهابطة إلى مختلف أرجاء المدينة، إلى البناء الشرقي والبحر، وإلى محطة القطارات الرئيسية وأحياء الرمل والمنشية والحي اللاتيني ومحرم بيك والوسط التجاري والجامعي في الإسكندرية، ومع مرور الأيام تحول حي (كوم الدكة) إلى منطقة تقطنُها أغلبية شعبية تضمُ الحرفيين وأصحاب المهن البسيطة والعاملين في قصور الأغنياء في الأحياء المُحيطة، وفي زمن الأحتلال البريطاني كان جنود الأحتلال يخشونَ الأقتراب من ذلك الحي الذي تتجسدُ فيه القضية الوطنية واقعاً ساخناً، تعجزُ أساليب السياسة عن تبريره، فكانَ الداخل إليه منهم مفقوداً، في حين كان أهالي الحي يتجمعونَ كُلَ مساءٍ، بعد فراغِهم من أعمالٍهم، في مقهىً صغيرٍ، وأصبحَ أكثرُ ما يشغِل عقولهُم شؤون السياسة، وما ينتابُ مِصرَ من شرورٍ على أيدي المُحتلينَ المُستعمرينَ، والتابعينَ لهُم مِن كِبار التُجار والمُلاك وأصحاب التوكيلات الأجنبية، والنفوذ المستند من الأحتلال البريطاني ٠


مشاهدات 94
الكاتب رعد أبو كلل الطائي
أضيف 2025/12/25 - 1:50 AM
آخر تحديث 2025/12/25 - 6:29 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 218 الشهر 18498 الكلي 13002403
الوقت الآن
الخميس 2025/12/25 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير