الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
صيّاد الحياة.. معرض محمد فتاح بأربيل

بواسطة azzaman

صيّاد الحياة.. معرض محمد فتاح بأربيل

أسماك تحلّق وحمائم تغرق في الضوء

ياس خضير البياتي

 

افتتح وزير الثقافة والشباب في إقليم كردستان، إلى جانب محافظ أربيل، معرض «الصيّاد» للفنان التشكيلي الكردي محمد فتاح في اربيل، ابن مدينة السليمانية، الذي يُعدّ من أبرز الأصوات التشكيلية في العراق. المعرض، الذي أقيم بين الخامس عشر والسابع عشر من هذا الشهر، جاء كفعالية مكثفة تراهن على الأثر النوعي لا على الامتداد الزمني الطويل، ليقدّم للمتلقي تجربة بصرية وفكرية تتجاوز حدود اللوحة إلى أسئلة الإنسان والحرية والكرامة.

محمد فتاح، الذي عشق الفن منذ نعومة أظافره ودرسه أكاديميًا في معهد وكلية الفنون الجميلة بالسليمانية، متأثرًا بمدارس أوربية كالتعبيرية والتجريدية، صاغ فلسفة خاصة ترى الفن رسالة أخلاقية قبل أن يكون زخرفة بصرية. في أعماله، تتحول الطبيعة والرموز التاريخية والإنسان إلى استعارات كبرى عن الأمل والمقاومة والبحث عن معنى أرحب للوجود. جوهر المعرض يقوم على فكرة أن الإنسان يولد ليواجه مشكلات وتحديات لا تنتهي، لكن قيمته الحقيقية تتجلى في كونه عطاءً للآخرين، لا طريدةً سهلة لقوى الشر. «الصيّاد» هنا ليس من يقتنص الفرائس، بل من يصطاد الأمل من قلب العتمة، رافضًا أن يكون فريسة لليأس أو أداةً في يد من يصطاد البشر لحساب الخراب والحروب.

في هذا المعنى، يتحوّل فعل الصيد إلى استعارة أخلاقية: إمّا أن نصطاد معنى أعلى لوجودنا عبر المشاركة والكرم والحرية، أو نُترك لنُصاد في أسواق الكراهية والاستلاب. السمك والحمام في لوحات محمد فتحي ليسا مجرد كائنات طبيعية، بل رموز لإنسان محاصر بعناصر لا يملك تجاهها الكثير من السيطرة. السمك يسبح في فضاءات لونية قلقة، والحمام يحلّق فوق رماد المدن، وكلاهما يتأرجح بين أن يكون ضحية أو صيّادًا، في استعارة بليغة عن الإنسان في عالم غير عادل.

ملحمة الشهيد

في لوحة «انتفاضة الشباب» يشتغل الفنان على التوتر الحاد بين انفجار اللون وحركة الجسد، حيث يتحوّل الجيل الجديد إلى موجة صاعدة تشبه أسراب السمك حين تخرج عن مسارها لتكسر التيار. الأجساد هنا لا تُرسم بتفاصيل تشخيصية مكتملة، بل بتكوينات تعبيرية تجريدية توحي أكثر مما تصف، كأنّ الشباب طاقة قبل أن يكونوا أفرادًا، وصوت قبل أن يكونوا ملامح. هذا الامتداد التعبيري يبلغ ذروته في «ملحمة الشهيد»، لوحة تُقدّم الشهيد كرمز إنساني عام لا ينتمي لزمان أو مكان محدّد، جسدًا يتسامى عن جراحه ليضيء محيطه بدل أن يغرق في دمه. السمك والحمام يطلّان في الخلفية ككائنات تراقب المشهد، وكأنها تشهد على دورة الفقد والتضحية التي لا تتوقف، لكن حضورها المتكرّر يوحي أيضًا بأن دم الشهيد يتحوّل إلى حياة جديدة في عروق الجماعة. وتبدو «الانتفاضة الفلسطينية» امتدادًا طبيعيًا لهواجس الفنان حول الحرية والاحتلال والكرامة، حيث تُستدعى فلسطين عبر إيقاع لوني حاد وحركة كتلية تشبه تكسّر الأمواج على صخور عنيدة لا تنكسر. يتداخل الرمزي بالتاريخي حين يظهر صلاح الدين، لا كشخصية أسطورية جامدة، بل كمحور بصري تتقاطع عنده الذاكرة الدينية والقومية مع أسئلة الراهن؛ وجه ربما لا يُرسم بالكامل، إنما تُلمح ملامحه وسط دوامات الخطوط والألوان، في إشارة إلى أن الرموز التاريخية لا تزال حاضرة بوصفها ضميرًا أخلاقيًا أكثر منها تماثيل حجرية.

في المقابل، تأتي لوحة «حنان الأم» كاستراحة روحية، حيث تتراجع حدّة الألوان لصالح درجات أكثر دفئًا، وتلين الخطوط كأنها ذراعان تلتفّان حول الكائن البشري لحمايته من ضجيج العالم. هنا تستعيد الأم دورها كملاذ أخير، كصيّادة من نوع مختلف، تصطاد الخوف من قلب طفلها وتستبدله بالطمأنينة.

صراع أخلاقي

في لوحة «التلوث البيئي» يذهب الفنان إلى جبهة أخرى من جبهات الصراع بين الإنسان والشر، حيث لا يعود العدو جنديًا أو مستعمِرًا، بل سحب دخان ومياه ملوثة وسماء مخنوقة. السمك في هذه اللوحة يتلوى في فضاء لوني مريض، والألوان التي كانت في أعمال أخرى رمزًا للحياة تتحوّل هنا إلى إنذار؛ أخضر يميل إلى السّمية، أزرق مشوب بالرماد، وأبيض مثقوب ببقع داكنة. الحمام أيضًا يفقد خفّته، أجنحة ثقيلة كأنها تحاول الطيران فوق نفايات العالم وفوق لا مبالاة البشر، ما يجعل السؤال البيئي جزءًا من سؤال الأخلاق والعدالة لا مجرد قضية تقنية أو علمية.

وعرف الفنان التشكيلي بأسلوبه في دمج التكتيكات الفنية مع التعبير العاطفي والتجريد، حيث يعتمد على ضربات فرشاة جريئة وألوان حية ليبرز الديناميكية الداخلية. تظهر لوحاته توازنًا بين البناء التشكيلي والعفوية، مستلهمة من اللاوعي لخلق تأثيرات بصرية غامضة.

يستخدم فتحي تقنيات الرش العفوي والارتجال، مشابهًا لرسامي الحركة مثل جاكسون بولوك، ليترجم العواطف إلى حركة تلقائية على القماش، حيث التركيز على الداخل الوجداني، لتندفع الألوان بقوة لتعكس التوترات النفسية والاجتماعية، مما يجعل اللوحة حوارًا بين الفنان والمتلقي.

اما البعد التجريدي، فأنه يعتمد التجريد في أعماله على تشويه الأشكال الطبيعية نحو الرموز الهندسية والمساحات المفتوحة، معتمدًا على الخطوط المتدفقة والفراغ كعنصر دلالي، حيث يبني توازنًا تشكيليًا يعتمد على السمك والليونة في الأبعاد، فتتحول اللوحة إلى سطح يعبر عن الوجود الحديث، فيمزج التعبير بالتجريد ليثير تفسيرات شخصية متعددة لدى المتلقي. هذا النهج يجعل أعماله نموذجًا للفن المعاصر الذي يتجاوز الشكل نحو الجوهر العاطفي

في معرضه الأخير « الصياد» ، تتوسل لوحاته بلغة تشكيلية تقوم على مزج التعبيرية بالتجريد، حيث يترك الفنان مساحة واسعة للتأويل دون أن يقطع خيط التواصل مع المتلقي. تتجاور البقع اللونية العنيفة مع مساحات هادئة، وتتكسّر الخطوط الحادة فوق منحنيات رخوة، ليولد من هذا التضاد إيقاع بصري يشبه نبض القلب وهو يواجه الخطر تارة، ويستسلم للحظات التأمل تارة أخرى.

هذا الأسلوب يمنح المعرض طابعًا سرديًا غير مباشر؛ فالقصص لا تُروى بلسان واضح، بل تُلمَح في مسارات اللون، وفي العلاقات بين السمك والحمام والإنسان، بما يجعل كل لوحة فصلًا من حكاية واحدة عن البحث عن الأمل.

*في نهاية المطاف، لا يقدّم محمد فتاح لوحات فحسب، بل يقدّم فلسفة كاملة عن معنى أن يكون الإنسان صيّادًا للأمل في عالمٍ يكثر فيه الصيّادون وتقلّ فيه الفرائس النبيلة. أعماله ليست مجرد ألوان وخطوط، بل مواقف أخلاقية تُذكّر المتلقي بأن الفن ليس ترفًا بصريًا، بل رسالة إنسانية تُقاوم العتمة وتستدعي الضوء.

هكذا يغدو «الصيّاد» أكثر من معرض تشكيلي؛ إنه دعوة إلى أن نصطاد المعنى من قلب الفوضى، وأن نعيد للحرية والكرامة والبيئة مكانتها في وجداننا. وفي كل لوحة، يترك فتحي أثرًا يذكّرنا بأن الفن الحقيقي لا يكتفي بأن يُرى، بل يسعى لأن يُعاش ويُترجم إلى فعل إنساني يومي.

 

 

 


مشاهدات 114
الكاتب ياس خضير البياتي
أضيف 2025/12/17 - 2:48 PM
آخر تحديث 2025/12/18 - 10:47 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 448 الشهر 13311 الكلي 12997216
الوقت الآن
الخميس 2025/12/18 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير