الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
حين كانت الفكرة تسبق الصورة


حين كانت الفكرة تسبق الصورة

عبدالكريم الحلو

 

في زمنٍ لم تكن فيه الأزمنةُ تعدُّ أنفاسها

بعدد الإعجابات، ولم تكن الأسماءُ تُقاس

بظلال المتابعين،

كان النصّ هو قَصَبَةُ الهواء التي نتنفس منها،

وكان الكاتب يدخل إلى ساحة الفكر عاريًا

إلّا من لغته.

لم تكن في يد الصحافة مرآةٌ تُكبر وجوهًا وتُصغّر أخرى، بل كانت تمتلك ميزانًا من صمتٍ ووعي، تُزن فيه الفكرة قبل صاحبها، والجملة قبل شهرة قائلها.

كان الكاتب آنذاك يخطو نحو أعمدة الجرائد كما يدخل المصلّي إلى معبده .

بقدمين ترتجفان من وطأة الحقيقة لا من خوف ضوءَ كاميرا، وبقلبٍ يعرف أن الكلمات وحدها ستقف عارية أمام القارئ.

يومها، كانت الأسماء الجديدة تُولد كما يُولد المطر : لا تحتاج إلى وساطة، ولا إلى ضوءٍ مُصطنع،

بل يكفي أن تكون صافية لتُسمَع.

أمّا اليوم :

فقد انقلبت المعادلة.

صارت الصحافة – أو ما تبقى منها – تبحث عمّن يلمع في الواجهة، لا عمّن يُضيء من داخله.

تُلمّع مَن له جمهور مُعدّ سلفًا، وتُهمل من يمتلك صوتًا حقيقيًا.

صار بعض الكتّاب يُدفنون تحت طبقات من التجاهل؛ لا لقصور في رؤاهم،

بل لأن أصواتهم لا تنتمي لمعسكر سياسي، أو طيف طائفي، أو حشدٍ مدجج بآلاف الإعجابات.

ومع ولادة فيسبوك :

تغيّر شكل الحوار. لم نعد نُحاور الأفكار، بل نُحاور الصور.

الصورة تسبق الفكرة، والوجه يسبق النص،

واللايك يُخرسُ السؤال.

غابت المعايير الخالدة:

العمق، الجِدّة، القدرة على زحزحة يقينٍ متجذر.

وحلّت محلها معايير من ضوءٍ بارد:

كم يتابعك؟

كم مرّة أُعجب الناسُ بظلك؟

وهل تُرضي مزاج الجموع كي لا تُلقى خارج ساحة الضوء؟

لكن… وسط هذا الضجيج، :

ما زال هناك من يكتب كما يُصلّي:

بصدقٍ لا ينتظر تصفيقًا.

وما زال هناك من يقرأ كما لو أن القراءة طريقٌ للخلاص، لا للتفاخر.

وما زالت الصحافة الحقيقية – وإن ضمرت – تصغي للكاتب الذي يصنع من لغته بيتًا يسع العالم، لا لخوارزمية تُقرّر من يستحق الظهور.

إنّ الأسماء الجديدة لا تحتاج سوى نافذة من عدل، ومساحة من إنصاف، كي ينتصر جوهر الإبداع على صخب الإعلان.

فالموهبة التي تُقمع اليوم ستعود غدًا بنصٍّ يوقظ حجرًا، وتاريخُ الأدب أكبر شاهد على أن الضوء الحقيقي لا يصنعه محرّر، بل تصنعه الجملة التي لا تموت.

ولعلّ أعظم ما يمكن أن نفعله اليوم أننا نعيد الاعتبار للفكرة، ونرفعها فوق الصورة، ونستعيد ذلك الزمن الذي كانت فيه الكتابة رحلةً إلى الذات، لا سباقًا نحو جمهورٍ سريع الملل.

فالكاتب الذي يبني مجده على عدد المتابعين يشبه بيتًا من ورق، أما الذي يبنيه على صدق الفكرة، فيشبه جذعَ شجرةٍ لا تقدر الرياح أن تهزّ جذوره.

وهكذا

سيبقى الإبداع الحقيقي يتقدّم بخطواتٍ خفيّة، متواضعة، لكنها ثابتة،

بينما تتلاشى أسماء كثيرة لمع بريقها سريعًا

لأنها لم تتكئ على فكر،

بل على ضوءٍ مُستعار.

 

 


مشاهدات 23
الكاتب عبدالكريم الحلو
أضيف 2025/11/15 - 4:32 PM
آخر تحديث 2025/11/16 - 1:47 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 68 الشهر 11104 الكلي 12572607
الوقت الآن
الأحد 2025/11/16 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير