مقتدى الصّدر ومقاطعة الانتخابات.. قراءة أنثروبولوجيّة
علاء البغداديّ
توطئة
تُعَدّ مقاطعة الانتخابات في أصلها، فعل سياسيّ مقاوم بامتياز، وبالتّالي هي لا تقلّ أهمّيّة عن المشاركة، بل تكون هي الأهمّ في مثل الحالة العراقيّة، لاسيّما عندما ترتكز على خلفيّة ممارسات نقديّة عمليّة واعية. وبالتّالي هي تستهدف تغييراً مستداماً للرّاهن المُرتبك والمُربك وتركّز على تحقيق الحلول الجذريّة للأزمات، عوضاً عن التّرقيعات المؤقّتة غير المُجدية التي تحدث مع كلّ عمليّة انتخابيّة.
وفي مثل الرّاهن العراقيّ، عندما تأتي المقاطعة من تيّارٍ جماهيريّ كبير مثل (التّيّار الصّدريّ) فإنّها تكون من أجلى تمظهرات الفعل الاحتجاجيّ المسؤول، والرّافض لكلّ مجريات الواقع السّياسيّ ومخرجات العمليّة الانتخابيّة، وهذا ما يستدعي من الجميع الانتباه له ليس بوصفه موقفاً سلبيّاً ينتهي بإغلاق صناديق الاقتراع، بل ربّما تكون تلك البداية!
مكامن قوّة (التّيّار الصّدريّ)
لست هنا بصدد تشريح البُنى الثّقافيّة والاجتماعيّة والتّاريخيّة لـ(التّيّار الصّدريّ)، لكن من الضّرورة بمكان معرفة ملامح تمأسسه الاجتماعيّ وتمثّلاته الهيكليّة، لأنّه يختلف في تركيبته عن أيّةِ حالةٍ حزبيّةٍ أو سياسيّةٍ أو اجتماعيّة أخرى. ومن أبرز معالم قوّة (التّيّار الصّدريّ):
أوّلاً: أُفقيّة البناء التّنظيميّ
يرتكز (التّيّار الصّدريّ) في كينونته التّنظيميّة على الامتداد الأفقيّ بعيداً عن الهيكل العموديّ المُتعارف عليه في التّنظيمات الحزبيّة، وهذه الميزة تؤهّله لجذب الكثير ممن هم خارج الحالة الصّدريّة، ليكونوا منها، على مستوى الطّرح والمتبنيات والتّفاعل والتأثير، وهذا ما نلحظه من تفاعل فعاليّات وشخصيّات ثقافيّة وفنّيّة ورياضيّة وعشائريّة مع مواقفه في الكثير من المنعطفات، ومنها موقفه الأخير في مقاطعة الانتخابات. وهذه الميزة لها جذورها التّاريخيّة وليست وليدة الحال ما بعد 2003، فـ(التّيّار الصّدريّ) هو الامتداد الطّبيعيّ للحركة الشّعبيّة الواسعة التي تبلورت منذ تسعينيّات القرن الماضي على يد السّيّد محمّد محمّد صادق الصّدر، وكان من أبرز معالمها تمثيل الصّوت الرّافض للظّلم والقمع وقد تمثّلت بالتّمرُّد والممانعة وإنعاش الصّوت الوطنيّ والاشتغال على صناعة الوعي، مما جعلها شاخصاً يقصده كلّ المقهورين والمضطهدين والنّاقمين على السُّلطة وسياساتها القمعيّة، يتجاوز المعيار الدّينيّ والانتماء المؤدلج الضّيّق بين الفرد ورجل الدّين، الفقيه أو المرجع الدّينيّ.
ثانياً: مطواعية الجماهير الشّبابيّة المتنوّعة
وهذه من أهمّ وأبرز عناصر القوّة، حيث يتّسم جمهور السّيّد مقتدى الصّدر بحالةٍ تكاد تكون فريدة وعصيّة على التّحليل. و(مطواعية الجماهير الشّبابيّة المتنوّعة) ليس المقصود منها مُعدّلات الأعمار ونسب الشّباب في (التّيّار الصّدريّ)، فعلى الرّغم من سمته الشّبابيّة الاكثر وضوحاً، إلّا أنّ فيه نسبة غير قليلة من غير الشّباب، لكنّهم جميعاً يتّسمون بسمةِ المطواعية الشّبابيّة في تفاعلهم وتأثّرهم وفاعليّتهم على حَدٍّ سواء.
والقول بأنّ مَرَدّ ذلك هو قِلّة الوعي والمستوى التّعليميّ المُتدنّي التي دائماً ما يوصف بها جمهور (التّيّار الصّدريّ)، ليس صحيحاً، فالمُراقب الجيّد والمُتابع القريب لهم، يرى أنّ نسبة طلبة وأساتذة الجامعات غير قليلة في (التّيّار الصّدريّ) فضلاً عن الموظّفين في مختلف الدّوائر الحكوميّة وفيهم أصحاب المُناصب الإداريّة العُليا. والحديث هنا عن الجمهور بشقّيه، من ينتمي ويرتبط عقائديّاً واجتماعيّاً للعنوان الصّدريّ، وأيضاً من يرتبط بهم عاطفيّاً، وهذا الصّنف يسحبنا إلى منطقة تضمُّ المثشتغلين في الأدب والصّحافة والفنّ والرّياضة كما مرَّ ذكره.
هذا ما لا نجده في غير الحالة الصّدريّة، التي لا يُمكن وصفها وتحليل بنيتها وفق أنساق التجمّعات الحزبيّة أو الاجتماعيّة الأخرى، فنحن نتحدّث عن مئات الآلاف - بأقلّ التّقادير – تكون استجابتهم حاضرة لأيّ أمرٍ - مهما كان حجمه ونوعه - خلال ساعات أو حتّى دقائق.
ثالثاً: المرجعيّة الدّينيّة
منذ فترة ليست بالقصيرة، يُلاحظ وبوضوحٍ تامّ أنّ ثَمّة تقارب كبير يصل حَدّ التّماهي بين مواقف السّيّد مقتدى الصّدر ومرجعيّة السّيّد السّيستانيّ في مختلف المجالات، لاسيّما بعد إعلان مكتب المرجعيّة - ولأكثرِ من مرّة – عدم التّعاطي مع جميع الفعاليّات والشّخصيّات السّياسيّة العراقيّة، لدرجة رفض استقبالهم، بعد التّصريح بأنّها (بُحّ صوتها) و(المُجرّب لا يُجرّب)، بينما نجد تكرار زيارات السّيّد مقتدى الصّدر إلى السّيّد السّيستانيّ، وإن كانت أغلب الزّيارات في سياق المناسبات الدّينيّة، إلّا أنّ ذلك يُترك انطباعاً واضحاً في عدم رفض المرجعيّة له.
وفي موضوعة الانتخابات الحاليّة وموقف المُقاطعة للسّيّد مقتدى الصّدر، نرى أنّ مكتب السّيّد السّيستانيّ – وفي سابقةٍ لافتة – لم يُصدر أيّ بيانٍ أو موقفٍ واضح بشأن ذلك على عكس المَرّات السّابقة، فهي – أيّ المرجعيّة - وإن لم تُعلن رفضها أو مقاطعتها الواضحة للانتخابات، إلّا أنّها في نفس الآن، لم تُعلن تأييدها لها أو حثّ النّاس على الانتخابات، وهذا بحدّ ذاته يصبّ في صالح الموقف المُقاطع للسّيّد مقتدى الصّدر.
أسباب المقاطعة
في مثل الرّاهن العراقيّ، لابدّ أن تكون الانتخابات من الرّكائز الأساسيّة التي تُسهم في تعزيز الشّرعيّة وتجسير الثّقة بين المجتمع والمنظومة السّياسيّة، إلّا أنّ ما يحدث يُشير إلى العكس تماماً، فعلى الرّغم من تكرار التّجربة الانتخابيّة منذ عام 2005 فهي لم تتمكّن من ردم الهوّة الكبيرة بين المواطن وثقته بالأحزاب السّياسيّة.
وبحسب (المفوضيّة العليا المستقلّة للانتخابات)، ففي هذه الانتخابات شارك 31 تحالفاً و38 حزباً و75 مُرشحّاً مُستقلّاً، وبلغ عدد إجمالي المُرشّحين 7926 مرشّحاً، من أجل المنافسة على 329 مقعداً.
ومن خلال الحملات الدّعائيّة وشعاراتها، نرى أنّ حضور البُعد الطّائفيّ وبقوّة، من قبيل شعار (لا تضيّعوها) الذي أطلقه زعيم (قوى الدّولة) السّيّد عمّار الحكيم، بل أنّ حتّى مصطلح (قوى الدّولة) هو تنابزٌ واضح إلى أنّ ثمّة من يُمثّل قوى اللا دولة، وكذلك شعار (نحنُ أُمّة) الذي أطلقه زعيم حزب (تقدّم) محمّد الحلبوسيّ، فهي شعارات فيها حمولات مذهبيّة ضاجّة بالشّحن الطّائفيّ، فضلاً عن التّنافس غير السّليم بين الشّخصيّات والأحزاب داخل المكوّن الواحد. وكذلك يُلاحظ بروز المال السّياسيّ من خلال حجم ومساحة البذخ غير المُبرّر في الحملات الدّعائيّة التي تجاوزت مليارات الدّنانير.
هذا وغيره الكثير، يُشير إلى انّ العمليّة الانتخابيّة وفق هذه المعطيات لا يُمكن لها التّغيير في معادلة الأحزاب الكبيرة المُهيمنة على المشهد والتي تمتلك جمهوراً ثابتاً مؤدلجاً، وهي التي تُحدّد شكل الحكومة وترسم ملامحها، لا من خلال نتائج الانتخابات، بل من خلال التّوافقات (المحاصصة) التي تتمّ بعد الانتخابات. وهذا يكشف عن خللٍ بنيويّ في جسد النّظام السّياسيّ، وبالتّالي فإنّ الانتخابات قد يُمكنها تغيير بعض الشّخوص في مجلس النّوّاب، لكنّها غير قادرة على الحَدِّ من هيمنة رؤساء الكُتل الكبيرة وزعماء الأحزاب التّقليديّة.
يُضاف إلى ذلك كُلّه، سياق التحوّل الإقليميّ/ الدّوليّ للمنطقة، لاسيّما ما حدث في العامين الماضيين، سواء التّغيّرات التي حدثت في سوريا ولبنان، أو ما حدث بين إيران وإسرائيل، وما رَشَحَ عن حديث أميركيّ بضرورة إنهاء ملفّ الفصائل المُسلّحة في العراق، بالإضافة لاستجابة البرلمان العراقيّ للفيتو الأميركيّ والامتناع عن التّصويت على قانون الحشد الشّعبيّ، كُلّ ذلك يُلقي بضلالهِ على المشهد الانتخابيّ العراقيّ.
هذه مسوّغات رئيسة تُمثّل ركائز مقاطعة الانتخابات بالنّسبةِ للفرد العادّيّ، إلّا أنّها عندما تصدر من تيّارٍ جماهيريّ كبير مثل (التّيّار الصّدريّ) فإنّها تكون من أجلى تمظهرات الفعل الاحتجاجيّ الكبير، الذي لابدّ أن يترشّح عنه موقفاً مُغايراً، مما يجعل المُقاطعة مُشاركة سياسيّة بامتياز!
مفارقات في موقف الرّافضين لمُقاطعة مقتدى الصّدر للانتخابات
في البدءِ، يُمكن تمييز أنّ أكثر وأشدّ الرّافضين لموقف الصّدر في مقاطعته للانتخابات، هم من داخل المكوّن الشّيعيّ، بل جُلّهم ممن يُمكن توصيفهم بـ(الخصم السّياسيّ) له، وهذه مفارقة غريبة. وكُلّ ما تمّ طرحه من إشكالات ضدّ موقف الصّدر المُقاطع لا تصمد أمام النّقد والتّحليل، لاسيّما المتعلّقة بتفصيلة إضعاف المكوّن الشّيعيّ، واللّافت في موقفهم، أنّهم أكثر من كان يتّهم الصّدر وتيّاره بالفساد السّياسيّ والماليّ، ويحمّلونه مسؤوليّة الفشل الحكوميّ طيلة السّنوات الماضية!
أمّا كون مقاطعة (التّيّار الصّدريّ) تُضعف المكوّن الشّيعيّ فهي محاججة غاية في الوهن والابتعاد عن الواقع، ولأسبابٍ عِدّة تمّ التّعرّض لها كثيراً، لكن مما لم يتمّ الالتفات له في هذا الصّدد، أمرين غاية في الأهمّيّة:
الأوّل: إنّ تمركز الجمهور الصّدريّ وثقله هو في مناطق الوسط والجنوب ذات الثُّقل الشّيعيّ، مما يعني أنّ غياب النّاخب الصّدريّ ينبغي أن يتمّ تعويضه بناخبٍ شيعيّ آخر وليس من المكوِّن السُّنّيّ أو الكرديّ، وبالتّالي – ووفق المنطق الرّياضيّ/ الجغرافيّ – فإنّ ذلك يفسح المجال أكثر للأحزاب الشّيعيّة ويُزيد من فرص حصولها على مقاعد أكبر، لا العكس.
الثّاني: إنّ (التّيّار الصّدريّ) لم ينسلخ أبداً عن انتمائه المذهبيّ بدلالة الانتقال إلى (التّيّار الوطنيّ الشّيعيّ) الذي صار الاسم الجديد للتّيّار. كما أنّه لم يُفرّط يوماً بحقوق المكوّن الشّيعيّ لاسيّما في سياق العمل السّياسيّ، وحتّى عندما تخلّى عن الوزارات التي حصل عليها كاستحقاقٍ انتخابيّ ولأكثرِ من مرّة، فإنّه قام بتسليمها إلى رئيس الوزراء الشّيعيّ الذي تمّ تنصيبه من قبل الشّيعة، ولم يُسلّمها إلى السُّنّة أو الكُرد.
إنّ غاية موقف الرّافضين لمقاطعة الانتخابات من قبل مقتدى الصّدر، هو أنّهم ينطلقون في موقفهم ذاك بدفعٍ مذهبيّ، غايته جَرّ الصّدر لصفوفهم بُغية إحراز التفوّق الشّيعيّ انتخابيّاً، ليضمنوا باطمئنان إحراز الكتلة الأكبر التي تؤهّلهم لتشكيل الحكومة والحصول على أكبر عددٍ من الحقائب الوزاريّة بعد الانتخابات.
مقتدى الصّدر: نسقٌ متفرّد
إنّ أيّةِ قراءةٍ أو تأويلٍ لموقف السّيّد مقتدى الصّدر المُقاطع للانتخابات، تستدعي بالضّرورة محاولة فهم أبعاد شخصيّته بسياقها الثّقافيّ العامّ ومن كُلّ أبعادها، وأيضاً في سياق الفعل السّياسيّ للرّجل، وهذا من الأمور غير اليسيرة.
فالقائد الشّيعيّ الشّابّ الذي كان يوصف بالمغمور والرّاديكاليّ، والذي تَمكّن خلال سنوات قليلة جدّاً – وفق الحسابات السّياسيّة – أن يكون الرّقم الأصعب في عالم السّياسة والشّاخص الأهمّ في طريق المشتغلين بها، يفرض بقوّة الوقوف عند أيّةِ قراراتٍ يتّخذها، مع التّأكيد إنّه يستطيع ببراعةٍ غير مألوفةٍ ضبط إيقاع تيّار مليونيّ، يُمثّل الشّريحة الأكبر من الجمهور.
وعليه، فإنّ موقف الصّدر الأخير، لا ينتهي أبداً بالمقاطعة والاكتفاء بعدم المشاركة في الانتخابات، بل هو بداية جديدة للشّروع بمرحلةٍ جديدة، أشبه ما تكون بخارطة طريقٍ ضمن حركةٍ تصحيحيّةٍ شاملة، قادرة على تأسيس النُّظم القويمة للشّروع بإعادة ترميم الدّولة العراقيّة.
أمّا كيف ومتى؟ وما هي تمثّلات حراك الصّدر في الأيّاد القادمة؟ فهذا يُحلينا إلى أنّ الرّجل هو عَرّاب المفاجآت الذي يُغرّد خارج المألوف دائماً.