الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
قراءات نقدية.. عالمية النصوص الشعرية و سحرها


قراءات نقدية.. عالمية النصوص الشعرية و سحرها

سوران محمد

 

مقدمة:

هل صحيح أن تفسير وتحليل أي عمل شعري يُفرغ سحره؟ أم أنه شيء نسبي يتغير بتغير القصائد نفسها؟ على سبيل المثال، القصائد الغنية ومتماسكة البنى ومتنوعة الأبعاد لا تنغلق أبدًا على  تفسير واحد، ولن ينتهي وجودها بالتعمق في ابعادها الدلالية والفنية والجمالية لمرة واحدة، وفي الحصيلة وفقًا لمستوى فهم كل قارئ وشغفه ومستوى استمتاعه، يقرأ ويتأمل و يتلذذ من النصوص الابداعية.

هنا نتحدث عن ترجمة  نص (الشارع) للشاعر المكسيكي الشهير أوكتافيوباث والذي ترجم  إلى معظم لغات العالم الحية ودون فقد لقيمته الشعرية، وذلك بالطبع لتميزه. لأن الشعر الأصيل لا يزول قيمته بالترجمات لأنه غني بالافكار والصور والجمال الداخلي حتى ولو كانت لغته غير عجيبة الالفاظ وليست غريبة و معقدة و وحشية. وبالتالي الصياغة اللغوية تبقى على المترجم في اللغة الثانية الذي يقوم بترجمته اليها، لأن المصطلحات مثل الثياب، فالعبر بالجوهر ولو ان الصياغة اللغوية تكون لها الباع في تزين مداخل النصوص.

فعلى سبيل المثال عندما ترجم  شعر الشاعر الكبير الجواهري لحبيبته (أنيت) في باريس و التي كتبت لها قصائد في ديوانه، قالت هذا ليس شعرا! مع انه الشاعر العربي الكبير، لكن تذهب المعطيات اللغوية ولا يبقى بعد الترجمة الا الفكرة والايقاع الداخلي للمفردات والمعان، الخالية من الغنى اللغوي، فهي تساءلت مترددا: ليس فيها ما يدل على أن صاحب هذه النصوص هو الشاعر العربي الأكبر.

وقد أشار الجرجاني في مٶلفاته على هذه النقطة، حيث أن الالفاظ ليست في ذاتها مقصدا و شيئا تذكر، الا انها خادمة للمعان، وتظهر دورها في التركيب حيث يأتي دور أهمية النظم. وبالاخص في زماننا المتسارع وقد تغيرت الامور فيه وأصبح العالم قرية صغيرة وان معطيات العصر أثرت على الاذواق، اذ ان البعض يرى ان زمن الوزن والقافية قد ولى، بغض النظر عن انهما يقيدان التخييل وحرية صياغة المضمون. لكن مع كل هذا سيبقى موروثا خالدا وسيستلهم الشعراء دوما من نبعها الصافي الاصيل.

*

سيرة الشاعر:

وُلد أوكتافيو باث عام ١٩١٤ في المكسيك لأب محامٍ وسياسي وأم من جنوب اسبانيا حيث تشجعه على تحقيق طموحاته الادبية، رغم انها كانت أمية.

كتب ديوانه الشعري الأول عام ١٩٣٣ في التاسعة عشرة من عمره، بعنوان "القمر الوحشي". ساند الجمهوريين ضد الفاشيين خلال الحرب الأهلية الإسبانية. سافر إلى الولايات المتحدة عام ١٩٤٣. وعاش في باريس من عام ١٩٤٥ إلى عام ١٩٥١، حيث التقى سارتر وكامو وبريتون وغيرهم من الكُتّاب المشهورين. عمل دبلوماسيًا في أوائل الخمسينيات، مُثريًا تجاربه في آسيا والشرق، بما في ذلك اليابان والهند، حيث تعرّف على البوذية في عام ١٩٦٨، فالى جانب كونه شاعرا فقد كتب أيضا العديد من الدراسات النقدية والتأريخية والمقالات السياسية، تقاعد من العمل الدبلوماسي كرد  فعل ضد قمع التظاهرات الطلابية بعنف. قضى الشاعر معظم حياته في المكسيك مع زوجته الرسام مير خوسيه. حاز على العديد من الجوائز الدولية في الشعر، بما في ذلك جائزة نوبل للآداب عام ١٩٩٠. قبل أن وتوافيه المنية في ١٩نيسان ١٩٩٨.

*

 باث يمشي على شارع العبث:

قصيدة باث هي نصٌّ مفتوح، ويرتبط ارتباطًا مباشرًا بفلسفة حياة البشرية. وجدتُ العديد من التحليلات المختلفة في بحثي لهذا النص وأنا أدون خيوط الفكرة وأراقب حركة الأسطر مع تطلعات و رؤى وأسلوب الشاعرية.

في هذا النص المفتوح يمكن أن نحصل على تفاسير عدة، في البدء نرى شارعًا هادئًا. صحيح إنه رمز، ثم نستنبط بأن الذات المخاطبة قد قضت على الحياة بطريقة دراماتيكية، لا تعرف فيها بالضبط ما تريد تحقيقه. في لحظات ينحدر نحو الانحدار ويحقق نفس التكرار الممل حيث يجد نفسه في الماضي. ينظر إلى نفسه كما لو أن لا أحدا يراه، هل هذا هو الشعور بالدونية كما سائد في العالم الثالث والانسان ليس له الأولوية، لكنه يكافح مرارا وتكرارا أن يُرى أكثر من ذاته، أن يُساعده الضروف بأن يكون شخصًا أفضل مما كان عليه، ويسترد مكانته الذي يليق به.

اذا لاحظنا حركة الذات التائهة في السطرين الثالث والرابع، سنستنتج بأن باث لا يعرف ما يريده في هذه الحياة، ولذلك يُواصل مسيرته دون ملل وكلل.

في حين نرى في السطر الخامس: شخص خلفه يصطدم بالصخور ويغادر؛ هل هذا الشخص هو نفسه في الماضي؟ حيث يرمز الى استمرارية التسلق بمنحدرات مسارات الحياة.

بشكل عام يستخدم باث في هذا النص استعارات ضمنية لرسم معظلته بعدم العثور على الذات أو افتقارها إلى الوجود المطلوب والمنظور كما يجب أن يكون.

(أمشي في الظلمة)

بما ان الظلمة كناية متعددة الاستعمال، يمكن أن يكون هنا في حال الشاعر أدأة  لخلق الظروف السائدة التي وجد فيها الشاعر نفسه ، وهويلمح في السطر الاعلى إلى عتمة حياة الوحدة والعزلة، حيث لا يرى شيئا في مكانه الصحيح، وهو يقضي معظم أوقاته متفرغا للتأمل والوحدة آملا من يمتلأ فراغاته.

(إذا أتمهّل، يتمهّل)

في السطرين السادس والسابع: التكرار يعني لا هدفًا مُحددًا في الحسبان.

الإنسان مسؤول عن خياراته في الحياة، وعليه أن يترك أثرًا فيها. إن استمرارية الذهاب وعدم معرفة إلى أين يتجه يُثير سؤالًا فلسفيًا للقارئ، مع ان معظم الناس يتعاطون مع الحياة حسب متطلباتهم اليومية، لكن الشاعر هنا يخرج عن المألوف و يبحث عن أغلى ما يتفكربە الشخص البسيط، فهو لا يرضى ولا يكتفي بأشباع غرائزه البشرية بل يتطلع الى اكبر من هذا بحثا عن تحقيق وجوده الايجابي المعنوي وبحثه عن الآخر المشابه متطلعا من منافذ الذات المكلومة الى حياة ذات آفاق واسعة . كما ان  اهتزازات الأقدام في الصعود والهبوط مؤشر الى ما يواجهه الإنسان في درب الحياة، فلا وقوف عن المضي قدمًا، لكن هذا لا يُعطيه السيرورة تقديرًا أو أطارا زمنيا مستقبليا لعدم وضوح الرؤية والملاذ.

يستمر كاريزما النص على هذا المنوال، ولا يرى سبيلًا للتغيير ومحاولة اتخاذ خطوات مختلفة. لذلك، عندما ينظر إلى نفسه، يجد نفسه في الماضي، وكأن هذا التخلف والعبأ السياسي قدر مكتوب للأجيال ويستحيل عليه تغييره.

ينظر أحد هواة الشعر من زاوية أخرى الى هذا النص ويكتب:

كتب باث هذا النص عام ١٩٦٣. حيث كان حياته مُظلمة تمامًا ومحاطة باليأس، فلا يرى هنا نورًا، لأنه في الظلام ولا يرى حتى خطواته، والبعض يرى من خلاله التشاؤم، لكن لا يعتبر الا نظرة ثاقبة و واقعيية لما آل يٶو اليه الأمور والمعطيات.

أخيرًا، أود أن أدعو وأشجع محبي الشعر الجاد إلى محاولة قراءة هذا النص من خلال فهمهم المتنوع الثري، لا كما أراه أنا أو غيري، فالقارئ المعاصر هو المنتج المكمل بعد الاكتمال من انتاج النص، وستبقى جميع القراءات السابقة مجرد آراء، وغنى النص هنا يستوجب قراءات جديدة ومتنوعة. وهذه هي سمة من سمات النص الثري، قد يٶدي الى ولادة استنباطات متعاكسة تماما حسب زاوية رٶية المتلقي وحنكته وتجاربه.

أنا هنا، أستطيع القول بإن هذا النص ليس سهلا ولا هجينا، بل يتجاوز حدود الزمان والمكان، ويضمن بذلك بقائه عند قراء الشعر الحقيقيين، بمعنى أن الشاعر لم يحصر شعره في زمن أو بلد أو شخص معين. يمكن للشارع أن يوجد في أي مكان وزمان ويمكن أن يحتوي على مدلولات متنوعة، ويمكن للناس أن يسيروا عليه بطرق مختلفة ويدونوا معه أيامهم و ذكرياتهم وتجاربهم. لكن هنا الشارع فارغ من المارة، ويجد الشاعر نفسه فيه وحيدا– وهو يعيد الكرة و يمر به مرارًا وتكرارًا.

ومن النقاط المهمة التي لم أرها مذكورة مسبقا، هي عدم ذكر مغادرة منطقة الشارع، إما لأسباب خارجية كالمنع أو الغياب، أو لأسباب داخلية كالعجز أو عدم الرضا والاستسلام للقدر، فلا يخرج الشارع عن أطرنة المكان، وليس ذلك راجع الى ضيق أفق رؤياه، بل هدا ما يقصده في ارسال رسالته الشعرية، وهي ثيمة تهم الكل ولكننا نتفرع عندما يأتي الدور على فك مدلولات الشارع.

هنا بأسلوب فريد ومختلف، يقسم الشاعر نفسه إلى تاريخين، أو شخصين؛ ماضٍ مظلم، وحاضر متكرر، فلا يخوض في الحديث عن المستقبل. نعم هذه هي الحقيقة، فمن الصعب لشاعر ذو خبرة كثة أن ينخدع بأمل غير موجود في الواقع، إن دمه مكسيكي، لذا في عام ١٩٧١ ورغم كل المشاكل التي كان يعلم أنه سيواجهها هناك، قرر بالعودة إلى المكسيك بعد اغتراب طويل، حيث قام فيها بمراجعة وجوده الانساني والشعري.

وهذا التحليل يقودنا إلى شكل المعنى العام للنص، والذي يمكن تأويله بطرق مختلفة وأشكال ورسوم بيانية كما يلي:

كما يتسنى للناقد البنوي أن يرسم الشكل العام للمعنى في هذه القصيدة على شكل المعادلة التالية:

(الامل) محاولة---> (عدم الحصول على شيء)---> العودة إلى البدء (اليأس)

تجدر الإشارة هنا إلى نقطة مهمة حول ظلمة الشارع؛ أن الظلام الذي خيّم على الشارع ليس ماديًا، بل روحيًا، لأن الشاعر يرى فيه، كما يقول (هناك أنظر إلى رجل يمشي عليه) 

في مقابلة مع ألفريد ماك آدم في نيويورك عام ١٩٩١، أشار الشاعر إلى فترة نفيه خارج المكسيك من عام ١٩٥٩ إلى عام ١٩٧١، والتي قادته إلى كتابة هذه القصيدة. يقول الشاعر في المقابلة: "خلال رحلتي الثانية إلى الهند، بين عامي ١٩٦٢ و١٩٦٨، قرأتُ الكثير من النصوص الدينية والفلسفية. لقد أثرت فيّ الحركة الطلابية عام ١٩٦٨، وشعرتُ  بطريقة ما، أن آمال وأهداف شبابي قد وُلدت من جديد. في الثاني من أكتوبر ١٩٦٨، قررت الدولة استخدام القمع الوحشي ضد المتظاهرين الطلاب. شعرتُ أنه لا ينبغي لي بعد الآن خدمة مثل هذه الحكومة، فانسحبتُ من العمل الدبلوماسي.

يعكس هذا الخطاب آفاق الشاعر الفكرية الواسعة وتوجهه التقدمي، على الرغم من مشاركته إلى جانب بابلو نيرودا في الثورة الإسبانية ضد الفاشيين.

*

الشارع

.....................  

شارع طويل وهادئ.

أمشي في الظلمة وأتعثّر وأقَع

ثم أنهض، فأدوس بأقدام عمياء

أحجاراً صمَّاءَ وأوراقاً يابسة

يدوسها أيضاً شخصٌ ما خلفي:

إذا أتمهّل، يتمهّل؛

إذا أركض، يركض. أستدير: لا أحد.

كلُّ شيء مُعتم وبلا مخرج.

أخذت أدور وأدور طوال هذه الزوايا

المفضية دوماً إلى الشارع

حيث لا أحد ينتظرني أو يتبعني،

حيث أتعقَّبُ رجلاً يتعثَّر وينهض

وما إن يراني، حتى يقول: لا أحد.

***

المراجع:

 مجلة باريس النقدية  Paris Review. 1

Poemhunter, Octavio paz.2 

المنار الثقافية الدولية، الشارع للشاعر أوكتافيو باث،عبدالقادر الجنابي .3

    Wikipedia.4


مشاهدات 14
الكاتب سوران محمد
أضيف 2025/11/12 - 1:46 PM
آخر تحديث 2025/11/16 - 3:35 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 99 الشهر 11135 الكلي 12572638
الوقت الآن
الأحد 2025/11/16 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير