الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
قمة بوسان: الحسابات العميقة وراء الهدنة الأميركية – الصينية

بواسطة azzaman

قمة بوسان: الحسابات العميقة وراء الهدنة الأميركية – الصينية

محمد علي الحيدري

 

لم تكن قمة بوسان بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونظيره الصيني شي جينبينغ مجرد محاولة لتخفيف التوتر التجاري بين البلدين، بل جاءت كجزء من إعادة تموضع استراتيجي أوسع، يعكس إدراك الطرفين لحدود القوة في عالم يتغير بسرعة. فعلى الرغم من اللغة الودية التي رافقت اللقاء، فإن جوهر القمة يكمن في ما لم يُعلن أكثر مما قيل أمام الإعلام، وفي الرسائل المتبادلة التي تتجاوز الاقتصاد إلى هندسة النفوذ الدولي.

من منظور استراتيجي، يمكن القول إن كلاً من واشنطن وبكين دخل اللقاء وفي ذهنه هدف محدد: إدارة الصراع لا حسمه. فالولايات المتحدة، التي تعاني من تآكل نسبي في قدرتها على فرض نموذجها الاقتصادي على العالم، تسعى إلى احتواء الصين دون الوصول إلى مواجهة مفتوحة تُنهكها داخلياً وتضعف تحالفاتها. أما الصين، فترغب في شراء الوقت وهي تعيد ترتيب بيتها الاقتصادي والسياسي، وتحاول حماية مشروعها الطموح لـ«النهضة الصينية» من اضطراب الأسواق ومن حرب استنزاف طويلة.

بهذا المعنى، جاءت الهدنة التجارية المؤقتة خطوة تكتيكية ضمن صراع استراتيجي طويل الأمد. فخفض الرسوم الجمركية واستئناف بعض الواردات الزراعية الأميركية ليس سوى غطاء اقتصادي لتبادل رسائل أعمق: رسالة أميركية مفادها أن واشنطن ما زالت قادرة على فرض الإيقاع العالمي، ورسالة صينية تؤكد أنها شريك لا يمكن تجاوزه مهما اشتدت الضغوط.

القمة أيضاً أعادت تذكير العالم بأن العلاقات بين القوتين ليست ثنائية فحسب، بل ذات أثر نظامي شامل. فالمنافسة على التكنولوجيا المتقدمة، والذكاء الاصطناعي، والممرات البحرية، وحتى الفضاء، تحوّلت إلى ميادين اختبار للزعامة العالمية. وكل هدنة، مهما بدت اقتصادية، تُقاس بميزان المصالح الكبرى في هذه الملفات. ولهذا، فإن قمة بوسان ليست نهاية أزمة، بل مرحلة من مراحل ترسيم حدود النظام الدولي الجديد.

استراتيجياً، يسعى ترامب إلى تحويل الهدنة إلى رافعة داخلية تخدم صورته في الداخل الأميركي كرئيس قادر على انتزاع «صفقات مربحة» من الخصوم، فيما يوظّف شي اللقاء لإثبات أن الصين لا تُعزل، وأنها قادرة على التفاوض من موقع الندّية لا الضعف. بين هذين الهدفين، يظل جوهر الصراع قائماً: من يمتلك زمام القيادة في الاقتصاد العالمي خلال العقد المقبل؟

يمكن القول إن القمة كرّست واقعية جديدة في العلاقات الدولية: عالم بلا قطب واحد، لكن من دون تعددية مستقرة بعد. فواشنطن تدرك أن كبح الصين لم يعد ممكناً بالوسائل القديمة، وبكين تدرك أن تجاوز الولايات المتحدة لا يتحقق من دون تفاهم معها على خطوط النفوذ. لذا فإن الهدنة، على محدوديتها، تشكل اعترافاً متبادلاً بميزان القوى القائم لا أكثر.

في النهاية، قمة بوسان لا تمثل «سلاماً تجارياً»، بل اتفاقاً ضمنياً على تجنّب التصادم حتى إشعار آخر. إنها هدنة الضرورة في زمن التحولات الكبرى، تفتح الباب أمام مرحلة جديدة من إدارة التنافس بدل كسره، حيث يلتقي الاقتصاد بالاستراتيجية، وتتحرك السياسة الدولية على إيقاع «توازن هش» بين أكبر قوتين في العالم.


مشاهدات 223
الكاتب محمد علي الحيدري
أضيف 2025/11/01 - 5:32 PM
آخر تحديث 2025/11/02 - 9:33 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 673 الشهر 1452 الكلي 12362955
الوقت الآن
الأحد 2025/11/2 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير