الإعلام المزّيف والحرب السيبرانية من يسيطر على الحقيقة ؟
عصام البرّام
منذ أن أصبح العالم قرية رقمية صغيرة تتحرك فيها المعلومات بسرعة الضوء، بدأت خيوط الحقيقة تتداخل مع نسيج الخداع، إذ لم تعد الأخبار كما كانت رسائل متسلسلة تنطلق من مصدر رسمي نحو جمهور ينتظر، بل تحولت إلى ساحة صراع معقدة تختلط فيها الحقائق بالافتراءات وتصبح فيها الأكاذيب أكثر إقناعاً من الوقائع، في ظل هذا المشهد الجديد، يبرز سؤال يزداد إلحاحا كل يوم، من يسيطر على الحقيقة في عصر الإعلام المزيف والحرب السيبرانية؟
لم تعد الحروب تقليدية تدار عبر الجيوش أو الأسلحة التقليدية، بل باتت الجبهات رقمية تخترق فيها العقول قبل الأنظمة وتُستهدف الثقة قبل البنى التحتية، فالعدو لم يعد ظاهراً أو واضح الهوية، بل يتحرك خلف شاشات خفية وينشر الفوضى في صمت شديد. كل شيء قابل للتزييف، وكل رواية معرضة للتشكيك، والتزييف صار أداة تدمير شاملة تقوض الثقة وتخلق العداوات وتعيد تشكيل الرأي العام وفق أجندات لا تعترف بالأخلاق ولا بالقيم ولا حتى بالواقع ذاته.
سيادة وطنية
في هذه الحرب الجديدة التي تتجاوز الحدود والسيادة الوطنية، يلعب الإعلام المزيف دوراً محوريا لا يقتصر فقط على نشر أخبار كاذبة، بل يتعدى ذلك إلى خلق واقع بديل واقع له رموزه وله لغته وله جمهوره الذي يدافع عنه بشراسة، فقد انتقلت مهمة الإعلام من نقل الحقيقة إلى تصنيعها، وبدلاً من البحث عن الخبر أصبح الهدف هو اختلاق قصة تبدو حقيقية بما يكفي لتنتشر ويتم تبنيها دون تحقق أو تمحيص.
وإذا كان الإعلام التقليدي، قد احتفظ لفترة طويلة بدور الحارس الأمين للمعلومة، فإن وسائل التواصل الاجتماعي جاءت لتقلب المعادلة تماما، فلم يعد هناك من يتحكم في النشر أو التحقق، ولم تعد هناك بوابات تنظم التدفق المعلوماتي، بل أصبح كل فرد صحفيا محتملا، وكل جهاز هاتف محطة بث تعمل على مدار الساعة دون رقابة أو ضوابط، وهنا تبرز خطورة الإعلام المزيف؛ باعتباره حالة فوضوية لا يمكن محاصرتها بسهولة، بل تتكاثر كالفيروس وتنتشر بمجرد الضغط على زر الإرسال.
المقلق في هذه الظاهرة ليس فقط قدرة الأكاذيب على الانتشار، بل أيضا ميل الناس إلى تصديقها والتفاعل معها، فقد أثبتت دراسات علم النفس؛ أن العقول البشرية تميل إلى تصديق ما يتماشى مع قناعاتها المسبقة حتى وإن كان ذلك يتعارض مع الحقائق الموضوعية. ومع مرور الوقت تتكون فقاعات معرفية مغلقة يعيش فيها الأفراد داخل عوالم افتراضية منعزلة يتبادلون فيها المعلومات المغلوطة ويفقدون تدريجيا القدرة على التمييز بين الصحيح والزائف.
وفي هذا السياق أصبحت الحرب السيبرانية الواجهة الجديدة للصراع بين الدول والأطراف الفاعلة غير الحكومية، فالهجمات الإلكترونية لا تستهدف فقط أنظمة الحواسيب أو البنى التحتية، بل أصبحت تستهدف وعي المجتمعات ونسيجها الاجتماعي والسياسي، وتعمل على زرع الشك والانقسام بين أفرادها عبر ضخ متواصل للرسائل الموجهة التي تزرع بذور التوتر وتغذي الإنقسام وتدفع نحو انهيار الثقة بين المواطن ومؤسساته. اللاعبون في هذه الحرب، هم كُثر، بعضهم دول يملكون جيوشاً رقمية مدربة تعمل ضمن استراتيجيات متقنة، وبعضهم جماعات منظمة تمتلك أدوات تقنية ومهارات عالية تتيح لها اختراق الأنظمة ونشر المحتوى المضلل بدقة شديدة، وهناك أيضا أطراف فردية مدفوعة بأجندات شخصية أو أيديولوجية يجدون في هذا الفضاء المفتوح ساحة مثالية للتأثير والتخريب، دون أن يُطلب منهم تفسير أو يتحملوا مسؤولية.
وتزداد الأزمة تعقيداً مع تطور أدوات الذكاء الاصطناعي، التي أضافت بعداً جديداً للمشكلة، فلم يعد الإعلام المزيف يقتصر على الصور المفبركة أو الأخبار المزورة، بل دخلنا عصر الفيديوهات المصطنعة والوجوه التي تتكلم بما لم تقله يوماً، وأصوات تنطق بما لم تفكر فيه أصلاً، هذه التقنية التي باتت تعرف بتقنية التزييف العميق، جعلت من الصعب جدا التمييز بين الحقيقة والخيال، بل وأصبحت وسيلة فعالة لتشويه السمعة وتزوير الوقائع وإعادة كتابة التأريخ في الزمن الحقيقي.
من يراقب حجم المحتوى الزائف الذي يتم تداوله يومياً، يُدرك أننا نعيش حالة طوارئ معلوماتية، حيث لم تعد الحقيقة مطلوبة بقدر ما أصبحت الرواية الجذابة، هي العملة الرائجة، وبينما كان الإعلام يوما ما يُستخدم لكشف الفساد والانحراف، صار اليوم وسيلة لتغطيته أو حتى لتبريره فقد تم تسييس الإعلام واحتكاره من قبل القوى المختلفة التي تستخدمه كأداة للدعاية والضغط والتأثير واستبدال الحقيقة بالرواية التي تخدم مصالحها.
انقسامات معرفية
هذه البيئة المسمومة لا تهدد فقط استقرار المجتمعات، بل تقوض أسس الديمقراطية نفسها، إذ كيف يمكن لمواطن أن يتخذ قرارات رشيدة في ظل طوفان من الأكاذيب؟ كيف يمكن لمجتمع أن يناقش قضاياه بموضوعية إن كان كل طرف يعيش في عالمه الخاص المبني على معلومات مختارة بعناية لتدعم موقفه فقط؟ هذه الانقسامات المعرفية لا تؤدي فقط إلى الاستقطاب بل تقود أحيانا إلى العنف الفعلي عندما تتحول الأكاذيب إلى أدوات تعبئة وتحريض وتحول النقاش العام إلى معركة كراهية. ما يزيد الطين بلة، هو عجز الأنظمة القانونية عن ملاحقة الفاعلين في هذه الحرب المظلمة، فالقوانين المعمول بها في أغلب دول العالم لم تُصمم للتعامل مع الجرائم الرقمية المعقدة ومعظمها يفتقر إلى القدرة على التجاوب مع التطور السريع للتقنيات والممارسات السيبرانية، كما أن التعاون الدولي في هذا المجال لا يزال محدودا وغالبا ما يصطدم بالمصالح المتضاربة للدول التي قد تكون هي نفسها أطرافاً فاعلة في الحرب الإعلامية الخفية.
ورغم الجهود التي تبذلها بعض المؤسسات والمنصات للكشف عن الأخبار المزيفة والتصدي لها، إلا أن هذه الجهود غالبا ما تكون متأخرة وتفتقر إلى الشمولية، بل إن بعض هذه المبادرات أصبحت موضع شك واتُهمت بالانحياز أو بالرقابة المبطنة، الأمر الذي يجعل الرهان على التوعية المجتمعية والتعليم الإعلامي أكثر أهمية من أي وقت مضى. لا يمكن إنهاء هذه الحرب بسهولة ولا يمكن تصور عالم خال من الإعلام المزيف، ولكن يمكن على الأقل خلق مناعة مجتمعية قادرة على التعامل مع هذا الخطر عبر تعزيز ثقافة التفكير النقدي وتوفير أدوات التحقق وتحفيز وسائل الإعلام المهنية على الالتزام بالمعايير الأخلاقية والابتعاد عن التسابق على الإثارة والتضليل من أجل نسب المشاهدة أو التفاعل.
في النهاية يبقى السؤال معلقا دون إجابة قاطعة، مَن يملك الحقيقة في عصر أصبحت فيه المعلومة سلعة والواقع منتجاً قابلاً للتعديل ومنصات التواصل ميادين حرب مفتوحة بلا جبهات تقليدية أو قواعد اشتباك واضحة؟ هل هي الحكومات أم الشركات التقنية أم الجماعات المؤثرة أم أن السيطرة باتت وهَماً نطاردهُ وسط عاصفة من الأكاذيب التي تتكاثر كل يوم؟ الجواب المؤلم، ربما أن الحقيقة لم تعد مِلك أحد، وأن من لا يملك أدوات الوعي هو من ســيدفع الثمن.