إسرائيل دولة دينية.. التناقض البنيوي ومأزق السلام في الشرق الأوسط
محمد عبد الجبار الشبوط
في الوقت الذي ترفع فيه إسرائيل شعار “الديمقراطية الليبرالية” وتروج لنفسها بوصفها “واحة علمانية” وسط محيط “ديني”، فإن النظرة الفاحصة لبنيتها القانونية والسياسية والثقافية تكشف عن مفارقة عميقة: إسرائيل ليست دولة علمانية بالمعنى الحديث للكلمة، بل دولة دينية تُعرّف نفسها على أساس ديني إثني، وتبني مواطنتها على مفهوم “الجنسية اليهودية”، لا على أسس مدنية جامعة.
القوانين التي تفضح البنية الدينية للدولة
تتجلى الهوية الدينية–القومية لإسرائيل بوضوح في قانونين رئيسيين يشكلان أساس البنية القانونية والسياسية للدولة:
1. قانون العودة (1950): يمنح هذا القانون كل يهودي في العالم حق الهجرة إلى إسرائيل والحصول الفوري على الجنسية الإسرائيلية، بناءً على معيار ديني–إثني، وليس على أساس المواطنة أو الإقامة أو الولادة. وهذا يعني أن اليهودي الذي لم تطأ قدمه أرض فلسطين يومًا، يُمنح الجنسية تلقائيًا، بينما يُحرم منها الفلسطيني المولود فيها، فقط لأنه ليس يهوديًا.
2. قانون القومية (2018): يُعد هذا القانون من قوانين الأساس (التي تمثل ما يشبه الدستور في إسرائيل)، ويعرّف إسرائيل بأنها “الدولة القومية للشعب اليهودي”، ويمنح حق تقرير المصير القومي لليهود فقط، ويقرّ بأن اللغة العبرية هي اللغة الرسمية الوحيدة، ويعتبر الاستيطان اليهودي قيمة وطنية تشجع الدولة على ترسيخها. وهو بذلك يشرعن التمييز بين اليهود وغير اليهود، حتى ضمن من يحملون الجنسية الإسرائيلية، وينفي عن الفلسطينيين أي شراكة حقيقية في السيادة والهوية.
هذان القانونان، معًا، يكشفان أن “إسرائيل” ليست دولة لجميع مواطنيها، بل دولة دينية إثنية محكومة بفكرة تفوّق جماعة دينية محددة على بقية السكان، وهو ما يتعارض جوهريًا مع مفاهيم الدولة المدنية الحديثة.
المفارقة: دولة دينية في قلب منطقة إسلامية
تكمن المفارقة في أن إسرائيل، على عكس ما يظنه الكثيرون، ليست دولة علمانية تفصل الدين عن الدولة، بل هي دولة تدمج الدين بالهوية القومية والسياسية بشكل عضوي. وهذه المفارقة تضعها في تناقض بنيوي مع محيطها الإسلامي والعربي، الذي بات يشهد اليوم محاولات متعددة للخروج من أسر الدولة الدينية أو الدولة الطائفية، باتجاه الدولة الحضارية الحديثة، القائمة على المواطنة المتساوية والعدالة والقيم الإنسانية المشتركة.
إن وجود دولة دينية في قلب الشرق الأوسط، تُقصي غير اليهود وتؤسس مواطنتها على أساس التمييز الديني، يجعل فكرة التعايش الإقليمي والسلام المستدام ضربًا من المستحيل.
عوائق السلام الدائم
يرتبط مفهوم “السلام” في الشرق الأوسط اليوم بفكرة “التطبيع” مع إسرائيل، دون معالجة جوهر المعضلة: الطبيعة الدينية للدولة العبرية. فطالما بقيت إسرائيل دولة قائمة على أساس ديني–قومي استبعادي، فلن يكون هناك سلام حقيقي، بل مجرد ترتيبات أمنية هشة، قابلة للانهيار عند كل تصعيد.
فالسلام الدائم لا يمكن أن يقوم مع دولة تُعرّف نفسها دينيًا، وتمنح حقوقًا تفاضلية لجماعة دينية معينة على حساب السكان الأصليين من المسلمين والمسيحيين والدروز وغيرهم.
الدولة العلمانية الواحدة: الحل الجذري
من هنا، يبرز حل الدولة العلمانية الواحدة في فلسطين الكبرى، من النهر إلى البحر، باعتباره الحل الجذري القادر على تجاوز هذا التناقض البنيوي. وهو حل لا يكتفي بإنهاء الاحتلال أو إقامة دولتين، بل يتطلب تفكيك البنية الدينية للدولة، واستبدالها بهوية مدنية–سياسية قائمة على المواطنة المتساوية، دون اعتبار للدين أو العرق أو اللغة.
الدولة العلمانية الواحدة لا تعني نفي الدين من الحياة العامة، بل تعني حياد الدولة تجاه الأديان، وضمان حرية المعتقد للجميع، دون أن تُسند السيادة السياسية أو الامتيازات القانونية إلى دين بعينه.
المواطنة الشرق أوسطية: أفق جديد للسلام الإقليمي
يتطلب هذا التحول منظورًا حضاريًا جديدًا، يتجاوز الثنائية الصراعية بين اليهود والمسلمين، أو بين الإسرائيليين والعرب، نحو مفهوم أوسع للمواطنة المشتركة في الفضاء الإقليمي، وهو ما يقدمه مشروع الدولة الحضارية الحديثة من خلال طرح المواطنة الشرق أوسطية.
وفق هذا المنظور، لا تعود الهوية السياسية محصورة بالدين أو القومية الضيقة، بل تتأسس على شراكة بشرية–مدنية بين كل مكونات المنطقة، تعترف بالاختلاف وتبني عليه، بدلًا من أن تنفيه أو تقمعه.
الخاتمة: تفكيك الدولة الدينية لصالح الدولة الحضارية
إن الاعتراف بأن إسرائيل دولة دينية هو الخطوة الأولى نحو نقد جذري لمعادلة الصراع الحالية. أما الخطوة الثانية، فهي طرح بديل حضاري يتجاوز القومية الدينية نحو الدولة المدنية العادلة. وهذا البديل لا يمكن أن يكون سوى الدولة العلمانية الواحدة في فلسطين الكبرى، بوصفها مدخلًا لفك الاشتباك التاريخي، ولبناء شرق أوسط قائم على المواطنة، لا التمييز، وعلى التعددية، لا الإقصاء.
إننا نحتاج إلى خيال سياسي جديد، يعيد التفكير في المسألة اليهودية لا بوصفها مشكلة دينية، بل بوصفها تحديًا حضاريًا، يحلّ عبر إقامة دولة واحدة، علمانية، عادلة، يشارك فيها الجميع على قدم المساواة، وتغدو نموذجًا مستقبليًا للـــــــــــمنطقة بأسرها.
الدولة الحضارية الحديثة حل الدولة الواحدة في فلسطين الكبرى