التنغيم في القرآن الكريم
نوري جاسم
التنغيم القرآني هو سيمفونية الإعجاز بين الصوت والروح، في البدء، لم تكن صدمة العرب من مفردات القرآن الكريم، بل من نبراته الأولى، من جرْسه العجيب، من تلاوين صوته الذي لم يألفوه في شعرٍ ولا خطب، ولا حتى في أسجاع الكهان، ولقد كان للقرآن وقعٌ يُربك الأذن ويُحاور القلب، قبل أن تشتبك معانيه مع العقل، وهذا ما يُعرف اليوم بـ التنغيم القرآني، ذلك النَسق الصوتي الذي يتجاوز التجويد ويغوص في الأعماق الخفية للأداء القرآني المتنزل، والدكتورة سناء حميد البياتي، الباحثة في علوم اللغة العربية، كانت من أوائل من تفكك هذا السر الكبير، فكتبت في دراستها الصوتية “التنغيم في القرآن الكريم”: “إن التنغيم القرآني ليس مجرد ترفٍ صوتي، بل هو البنية الصوتية التي تمسك بعصب المعنى، إنه البيان الذي لا يُفهم فقط بالعقل، بل يُتذوق بالنفس.” وتشرح كيف أن بعض الآيات تهبط على الروح بما تحمله من مفردات، وبما يلفّها من نغم ووقفات ورنات تهزّ كيان السامع، كأنك تسمع موسيقى خالدة تخرج من رحم الوحي، ولكن بلا أدوات، بلا عود أو ناي، بل بصوت الإنسان وحده حين يقترب من الإلهي،
وأما أهل التصوف والعرفان، وتحديدًا في الطريقة العلية القادرية الكسنزانية، فلهم في هذا المقام بُعدٌ آخر. فالكسنزانيون لا يرون التنغيم مجرد مهارة صوتية، بل مقامًا روحيًّا تُفتح به بوابات السمع القلبي، ويقولون “إذا سمعنا آيةً تُتلى بتنغيم خالص، شعرنا أن النفس تسجد قبل الجسد، وأن الحرف ينفصل عن الحنجرة ليعانق الروح مباشرة.” فالتنغيم عندهم لا يُتعلَّم فقط، بل يُلهم، ويُقترن بالحال الروحي للسالك، وفي خلوات العارفين يقول حضرة السيد الشيخ شمس الدين محمد نهرو الكسنزان القادري الحسيني اعزه الله قوله “إن قراءة القرآن بتنغيم صادق تحيي قلبًا ميتًا، وتفتح بابًا بينك وبين حضرة الحق، حيث يتكلم النور لغةً لا تُسمع إلا بأذن القلب.” وهو ما يجعل التنغيم لديهم جزءًا من السير والسلوك، لا يقل قدسية عن الذكر وحلقات الذكر والخلوة الأربعينية، والتنغيم القرآني، إذًا، هو أكثر من فن، هو شهادة إعجاز صوتي تربك السامعين وتفتح عليهم أفقًا من الخشوع والرؤية، إنه اللغة التي تجمع العربي القديم والمستمع العصري، الفقيه والمتصوف، في دهشة واحدة: كيف يمكن للحرف أن يبكي؟ وكيف يمكن لصوتٍ بشري أن يحمل نَفَسَ الغيب؟ وما بين البحث العلمي للدكتورة البياتي، والشهادة الروحية لأهل التصوف الكسنزاني، يتجلى لنا أن التنغيم هو “السلك الذهبي” الذي ربط القرآن بالقلب الإنساني منذ أول وهلة، وأنه سيظل، ما دام الزمان، لغزًا من ألغاز الجمال الإلهي، لا يُفسَّر بالكلمات فقط، بل يُذَاق كما تُذَاق الأنوار في حضرة الحب، وصلى الله على سيدنا محمد الوصف والوحي والرسالة والحكمة وعلى آله وصحبه وسلم تسليما ...