الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
حسين الجاف الكاتب الذي جمع بين الشعر والحكاية والتاريخ


حسين الجاف الكاتب الذي جمع بين الشعر والحكاية والتاريخ

محمد علي محيي الدين

 

في قلب بغداد القديمة، بين دروب باب الشيخ وظلال الحضرة الكيلانية، نشأ الفتى الكردي الذي سيحمل لاحقًا مشاعل الكلمة إلى فضاءات ثلاث لغات: الكردية والعربية والإنكليزية، مضمخًا إياها بأريج الحكايا، وشفافية الشعر، ودقة الترجمة، وعمق البحث. إنه حسين الجاف، الرجل الذي لم يكتفِ أن يكون قاصًا أو شاعرًا، بل اختار أن يكون مرآةً لوجدان الشعوب، وصوتًا يعبّر عن تفاصيل الأمكنة والأزمنة التي عبرتها ذاكرته وأحبها قلبه.

لم تكن بدايته نزوة هواة، بل كانت نبوءة من كتاب سقط صدفةً بين يديه، ترجم فيه علي اللقماني قصصًا إنكليزية إلى العربية، فكان هذا أول تماس لحسين الطفل مع فتنة الحكاية المترجمة، وما إن بدأ يقرأ حتى أدرك أن القراءة لا تُعلّم فحسب، بل تهب الإنسان حياةً أخرى. ومنذ ذلك الحين، صار الكتاب رفيقه، وصار القلم طريقه إلى فهم الحياة.

حسين الجاف، ابن الأسرة العشائرية المتآلفة من تراث الجاف الكردي العريق، ومن الروح البرزنجية المتصوفة التي زرعتها والدته في قلبه، حمل في داخله ازدواجية الفطرة بين الصلابة والعرفان، بين الموروث الشعبي والوعي المديني، فكان نتاجه الأدبي صورةً لتلك الجدلية بين الطبع والتطبع، بين المنحدر الجبلي ونداءات المدينة.

بصفته مترجمًا أكاديميًا يحمل شهادة الماجستير في الأدب الإنكليزي والترجمة، فتح حسين الجاف نوافذ الأدب الكردي والعربي على العالم، وساهم في تعريف القارئ الكردي والعربي بنتاجات أدبية وفكرية من العالم الغربي. ولكن الترجمة عنده لم تكن فعلاً آليًا، بل حوارًا حضاريًا وجسراً إنسانيًا، يصوغ فيه الجمال بمعناه العابر للغات، والدلالات التي تقيم في ظلّ المعاني لا في سطح الكلمات.

وقد تمثلت ثمرة هذا الحوار الحضاري في أكثر من عشرين كتابًا أصدرها، تنوعت بين القصة والشعر والترجمة والبحث التاريخي، إلى جانب مساهماته في وضع قواميس ثلاثية اللغة، هي اليوم أدوات حيوية في المشهد الثقافي الكردي والعراقي. ولأن الحكاية سكنت في وجدانه منذ أن جلس طفلًا إلى جانب أبيه في مضيف الجاف وهو يصغي إلى الحكايات والأساطير، فقد كتبها لاحقًا بلغة أدبية عالية، أعادت رسم ملامح المكان البغدادي وذاكرته الاجتماعية، كما لاحظ الناقد كمال العبدلي الذي رأى في حكاياته نموذجًا سرديًا عالي الحساسية، استطاع أن يمزج بين التوثيق الروحي والقص الفني بانسيابية آسرة.

أما الشعر، فكان نداء الروح الدائم، إذ يجد حسين الجاف نفسه كلما تهفو روحه في لحظة انكسار أو شغف، ممسكًا بالقصيدة كما لو أنها سبيكة من مشاعره المصهورة. في ديوانه "أغاريد عصافير الشجن" – الذي اعترف بأنه الأقرب إلى نفسه – نلمس تجلّيات تجربة حبّ صادقة ومنهارة، يكتبها بدم القلب لا بحبر الكلمات. وحين عاد إلى الشعر مرة أخرى في ديوان "آسف سيدتي، ليست العودة بالأمر الهين"، كان كما لو أنه يرثي زمنًا مكسورًا بأناقة لغوية حزينة، لكنها نبيلة.

ولم يكن الشعر عنده عزلة حسّ، بل تعبيرًا عن ضمير جمعي، فكتب عن محنة الإنسان في مواجهة القمع، وعن قيم الجمال والعدالة والحب. لقد رأى في الشاعر دور سارق النار الأسطوري، الذي يخاطر بنفسه من أجل أن ينير عتمات البيوت الفقيرة. هذا الدور الأخلاقي–الجمالي في آن، لم يفارقه في كل ما كتب، ولا فيما قاله عن معنى الأدب، حين اعتبره جهدًا للبحث عن الحرية والكرامة، لا ترفًا للترف، ولا موضة لغوية.

وقد اختار حسين الجاف التاريخَ بوصفه معبرًا لفهم الحياة، لا كزمن سحيق نتحسر عليه، بل كمرآة نرى من خلالها حقيقة الحاضر، ونتلمس بها أفق المستقبل. كان يؤمن – كما قال – بأن "الماضي هو المستقبل"، ولذلك لم يكتب عن الشخصيات الملكية العراقية بروح الحنين، بل بروح التحليل والعدل، ومن موقع الباحث الذي يرى أن الإنصاف لا يعني الانحياز، وأن الفهم أعمق من التمجيد.

فكتابه عن بكر صدقي، الضابط الانقلابي، لم يكن امتداحًا لرجل أدار انقلابًا، بل كان دراسة تحليلية لمظلوميته ومحاولته الخروج من العباءة الإنكليزية، في زمنٍ لم يكن الخروج من تلك العباءة ميسورًا. أما كتابه عن الشيخ محمود الحفيد، فكان احتفاءً برجل رأى فيه مثالًا للمجاهد الإنسان، بينما أعاد قراءة تاريخ الكرد الفيليين برؤية تسعى للإنصاف والاعتراف.

ومع كل ذلك، لم يكن حسين الجاف رجل الورق وحده، بل رجل المنبر والميدان والمجلس الثقافي. فقد عمل في وزارة التربية أكثر من أربعين عامًا، مترقيًا من معلم إلى مدير عام ومستشار، ممثلًا العراق في المؤتمرات الدولية من واشنطن إلى موسكو، ومن القاهرة إلى بيروت. وكان نجمًا في المجالس البغدادية الثقافية، ومحاضرًا من طراز خاص، يحوّل الحديث عن اللغة والتاريخ إلى فسحة للفهم والمتعة والجدل الخلّاق.

وترأس تحرير مجلة "الكاتب الكردي" لخمس دورات انتخابية، وساهم في تفعيل دور الثقافة الكردية في اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين، فكان نائبًا أول للأمين العام، وصوتًا رصينًا للمثقفين الكرد داخل البيت الثقافي العراقي.

كتب عنه النقاد بإعجاب، ومنهم كمال العبدلي الذي رأى في نصوصه القصصية سردًا يؤرشف التحولات الاجتماعية البغدادية، ويعيد بعين الرائي لا الراوي صياغة ذاكرة المجتمع، دون الوقوع في فخ النوستالجيا أو التقريرية. هذا المزج بين التوثيق الفني والعمق الإنساني هو ما منح كتابات الجاف فرادتها.

أما الذين عرفوه عن قرب، فيشهدون له بثقافة موسوعية، وذاكرة حافظة، وتواضع الكبار. فهو لا يتباهى بمنجزه، لكنه يعمل بإصرار على بناءه، لبنةً بعد لبنة، كمن يشيّد جدارًا يحمي ذاكرة الناس من النسيان.

حسين الجاف عرفته تسعينيات القرن الماضي لحضوره الدائم في مجلس العلامة الدكتور عبد الرزاق محيي الدين فهو ليس مجرد كاتب أو مترجم أو شاعر، بل هو واحد من الذين جعلوا من الأدب رسالة، ومن اللغة وطنًا، ومن الحكاية شكلًا من أشكال العدالة. إنه الشاهد والمُبشّر، الراوي والمُفسّر، العابر بين اللغات والثقافات والأزمنة، حارس الذاكرة وناقل الجمال، وسارق النار الذي لا يزال يضيء بها الطريق للآخرين.


مشاهدات 119
الكاتب محمد علي محيي الدين
أضيف 2025/07/21 - 3:30 PM
آخر تحديث 2025/07/22 - 4:36 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 563 الشهر 14470 الكلي 11168082
الوقت الآن
الثلاثاء 2025/7/22 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير