حميد سعيد.. الشاعر الذي حمل القصيدة العراقية إلى مدارات الإبداع
هدير الجبوري
يظل الشعر العراقي الحديث ظاهرة لافتة، تقتضي التأمل والتتبّع في جوانبها الفنية والإنسانية. فقد قدّم شعراؤه، عبر أجيال متعاقبة، نصوصاً حافلة بالجمال والتجريب، استطاعت أن تنحت حضورها في ذاكرة الأدب العربي. ومن بين هؤلاء الشعراء، يبرز الشاعر الاستاذ حميد سعيد، الذي جايل الحداثة منذ ستين عاماً، مضيفاً إليها رؤيته الخاصة وصوته المميّز.
وليس من اليسير الكتابة عن حميد سعيد، الشاعر والإنسان. فقد عاش في حقب كان الانتماء فيها لشخص أو رمز حاضراً بقوة، بينما اختار حميد طريقه الخاص، مؤمناً بما حمله من مبادئ ورؤى. فكان صوته مستقلًا، نابعاً من ثقافته العروبية الأصيلة، التي تغذت على روح المكان والزمان...
في مدينة الحلة، عاصمة بابل الخالدة، وُلد حميد سعيد. تلك المدينة التي ورثت عن حضارتها العريقة حسّها الإبداعي وعمقها التاريخي. ففي محلة الوردية، على الضفة الشرقية من الحلة، استقبل عام 1941 مولده، لتبدأ رحلة شعرية ظلت وفيّة لأحلام الأرض وهموم الإنسان. ومن هنا، من ذاكرة بابل وعبق نخيلها، انطلق في رحلته الطويلة، ليجعل من القصيدة العراقية الحديثة نافذة مفتوحة على المستقبل..
في قصائد حميد سعيد، تتجلى الصور الشعرية التي يستلهمها من عالمه الريفي ومن تراثه العميق. ورغم انه ينتمي الى شعراء الحداثة، الا ان بصمته الخاصة واضحة في تفاصيله وفي نبض الحياة الذي يسكبه في قصائده. تظهر لنا النخيل الباسقة، ومياه الفرات الجارية، والبساتين الواسعة، وبيوت الطين التي تنتشر في قرى الحلة، حيث تلوح (الوردية)، مسقط رأسه في محافظة بابل. هذه الاماكن تنبض في شعره، تضيء عوالمه الداخلية، وتغني نصوصه بروح المكان، لتعيدنا الى تلك اللحظات التي شكلت ذاكرته، وجعلت صوره الشعرية تحمل الوان الحنين والفرح معا.
عندما نغوص في عالم الشاعر حميد سعيد، نجد أنفسنا أمام تجربة شعرية تتخطى ضيق الحواشي المعتادة في أعمدة الصحف. ما كتبته هنا، وإن بدا لي بسيطًا، يحمل في داخله رغبة صادقة لاستكمال الكتابة عن شاعر أدهشني بتجاوزاته الهادئة، وبلوغه المرمى الأبعد من الكلمة. لا أخفي أنني كنت أرغب في تتبع خيوط نصوصه حتى آخر حدودها، شاعرٌ انتقل بروحه إلى فضاءات أبعد، مستحقًا مكانته بين كبار الشعراء العرب، كما أشار إليه كثير من النقاد المرموقين في العراق وخارجه.
حميد سعيد، الشاعر والإنسان، ظل رمزاً حياً في الوعي العراقي، إذ صار أيقونة محبة تفوح رائحتها العذبة في كل مكان. هذا الألق لم يبقَ محصوراً في حدود العراق، بل تمدد إلى فضاءات الوطن العربي الرحبة، بل وبلغ صداه بعض مراكز البحث في الجامعات الأجنبية. فإسهاماته المتواصلة لم تقتصر على الشعر وحده، بل انفتحت على البحث الأدبي والمقالة الصحفية، والدراسات العميقة التي تنفض الغبار عن غوامض النصوص وتجلي أسرارها..
وفي يوم تطرّزبمواويل الشعر العراقي، كان لحميد سعيد نصيبٌ وافر من المجد، إذ ظفر مؤخراً بجائزة
(سلطان بن علي العويس الثقافية) في دورتها التاسعة عشرة، عن فئة الشعر، ليكمل حلقة الشعر التي طالما أضاءت بريقها في روحه. في هذا اليوم
الذي أنحنت فيه الكلمات احتراماً للقصيدة، رفع حميد سعيد راية الشعر عالياً، وكأنه يستحضر في صوته شجن الأنهار العراقية العتيقة.
وفي ركب الفائزين بنفس الجائزة، سارت الروائية العراقية إنعام كجه جي، متوّجة بجائزة القصة والرواية والمسرحية، لتواصل غرس حروفها في تربة الذاكرة الجمعية للعراق. بينما كان الناقد المغربي حميد لحمداني يلتقط ظلال النصوص ويحوّلها إلى رؤى نقدية باذخة، حاصداً جائزة الدراسات الأدبية والنقدية. أما المفكر التونسي عبد الجليل التميمي، فكان صوته يبحر في المدى الإنساني الرحب، لينال جائزة الدراسات الإنسانية والمستقبلية، وكأنه يضيء مشاعل الفكر في غياهب الأسئلة الكبرى.
وهكذا تعانقت الأصوات والأقلام في فوز
يليق بتلك الأسماء، حيث الشعر يمسك بيد السرد، والنقد يعانق الفكر، ليكتمل المشهد الثقافي العربي بنصاعة وجلال..
وفي وطن عربيّ تعصف به الرياح، وتذروه رياح السياسة والمصالح، تبقى الكلمة هي الحصن الأخير للروح. وهنا، تبرز جائزة العويس كنبراس يشعُّ من بين العتمة، لتمنح الضوء لمن يستحقه: الأدباء، الكتّاب، المفكّرين، العلماء العرب.
كل عامين، تمدّ يدها البيضاء لتكرّم من أبدعوا في القصة والرواية والمسرحية، في الشعر والدراسات الأدبية والنقد، في دراسات الفكر الإنساني والمستقبلي. يشترط أن يكون نتاجهم ذا أثر وعمق، يحفر في الذاكرة العربية خنادق من نور، ويصنع للثقافة قلاعاً منيعة أمام زحف النسيان.
ما يميز هذه الجائزة حقاً هو نزاهتها واستقلاليتها. فهي لا تنحاز إلا للإبداع الخالص، ولا يضيرها لون أو معتقد، ولا يُقيّدها مذهبٌ أو تيار. في زمن تُشترى فيه الجوائز وتباع..
لذلك جاء فوز حميد سعيد مميزا وكبيرا، كأنما استعاد فيه الشعر صوته المبحوح وأعاد صدى القصيدة العراقية إلى مجراه النقي. في زحمة الضجيج والتناحر، ارتفعت كلماته كنبض أخضر يشق الطريق إلى حدائق الروح. حين أنصفته مسابقة العويس، بدا وكأنه استعاد حقا ضاع في زحمة الغبار، وأعاد له المجد الذي لطالما تاق إليه عشاق الشعر ومريدوه.
فها هو يعود إلى واجهة شعر الحداثة في العراق، فارس القصيدة الحية، بجرأته ونبرته الصافية، يقطف من المعاني ما يليق بروح الشعر وما يليق به كصوت من أصوات العراق المترعة بالأسى والجمال معا. في فوزه تتجدد ثقة الشعراء بأن القصيدة لا تخون أصحابها، وأن الكلمة حين تكون صافية ووفية، لا بد لها من أن تجد مكانها تحت الشمس.
إنها لحظة يستحقها حميد سعيد، مثلما يستحقها كل شاعر بقي وفيا لصوته الداخلي، صوت الحداثة الذي لا يشيخ ولا يهدأ. في فوزه امتدت ظلال العراق، وظلال قصائده التي تحاكي الرياح البعيدة، لتقول لنا جميعا: ما زال للشعر مكانه، وما زال للحب والحزن والفرح وطن اسمه العراق...