الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
هاشم البغدادي في ذكري رحيله.. قلم يعيد ما رسمه الخطاطون الأسلاف بشكل أكثر جمالية

بواسطة azzaman

هاشم البغدادي في ذكري رحيله.. قلم يعيد ما رسمه الخطاطون الأسلاف بشكل أكثر جمالية

 

بغداد - علي إبراهـيم الدليمي

عرفت ولادة، ونبوغ، وإنتشار، فن الخط العربي، في بغداد السلام، على أيدي الخطاطين الكبار، أمثال: (ابن البواب)، و(ابن مقلة)، و(ياقوت المستعصمي).. ومن جاء بعدهم، الذين وضعوا الأسس الصحيحة والسليمة لكل حرف من الحروف العربية، وبأنواعها الجميلة المعروفة. حتى إذا ما أحتل هولاكو بغداد في العام عام 656 هـ المُوافق 1258م، هرب الخطاطون العراقيون إلى إسطنبول، خوفاً من البطش والقتل، ليستقروا هناك، ومنه بدأ الخط ينمو من جديد، على يد الخطاط التركي (حمد الله الآماسي)، الذي وضع له بعض اللمسات الفنية على صورته، دون الخروج من قواعده وأسسه الأخرى.. فضلاً عن ظهور جديد لبعض أنواع الخط العربي، كالرقعة والديواني والجلي ديواني...

ومع بدايات العقد الثلاثيني من القرن العشرين، نبغ الخطاط العراقي، هاشم محمد البغدادي، الذي له الفضل الكبير، والمؤثر، في عودة الخط العربي إلى أصله، وفق قاعدته البغدادية المعروفة، بعد أن رسم صورة جديدة في الأسلوب الفني، وفي تراكبه التكوينية في اللوحة الخطية المستقلة، وفق ما رسمه أسلافه من الخطاطين البغداديين، بشكل أكثر تجويد وجمالية.

حيث راح البغدادي يبحث عن آثار روائع فن الخط وأساطينه في المحاريب والقباب وواجهات الجوامع في بغداد وأسطنبول وغيرها من الدول العربية.. مجيداً الكتابة بشتى أنواع الأقلام اجادة تامة كشفت عن روح جديدة تترسم معالمها بفنه العظيم.

وبقي البغدادي يتابع سفره إلى تركيا كل عام تقريباً.. حتى أطلع بنفسه على جميع الخطوط الشاخصة في المساجد والمتاحف والمكتبات والقصور، إذ ان قدرته الفنية لم تتمثل في استخدام التقاليد الفنية السائدة، أو محاكاة الحروف وفق الطريقة التي ألفها الخطاطون وتعارفوا على رسم نقاطها أو تمديد بداياتها، وانما تمثلت قدرته وتجلت مهارته في تكوين الموضوعات الجديدة وتركيب حروف وكلمات النص وفق إبتداع حديث، يعطي للحرف حقه، وقد تجلت براعته في ضبطه وتمكنه من معرفة وكتابة الخطوط معرفة لا ينافسه فيها أحد، ولا يضارعه في إجادتها بمجموعها منافس، وقد أهله ذلك لانتزاع القدرة على ممارسة إبداعية، لقد كان من أولئك القلائل الذين ظهروا في تأريخ العراق، وأبدعوا في مجال الخط العربي أيما إبداع، بل كان امام وشيخ الخطاطين قبل رحيله بلا منازع.

الخط وفنونه

وفي تركيا ألتقى بالخطاط المعروف (حامد الآمدي) وهو آخر عمالقة الخط الترك المجودين في الخط وفنونه، وعرض عليه لوحاته، وكتب عنده فدهش (الآمدي) واعجب بخطوط البغدادي أيما إعجاب، فأجازه مرتين: الأولى سنة1370 هـ، والثانية سنة 1372 هـ، وفيها من الثناء العاطر والإشادة الكبيرة ما يبين منزلة البغدادي وفضله وفنه وكفاءته.

حيث قال له حامد الآمدي في إجازته إياه: «بسم الله الرحمن الرحيم؛ ولدي هاشم محمد البغدادي الخطاط، شاهدت فيك الصدق والإخلاص والمحبة لهذا الفن الذي لن يندثر ما دام الإسلام باقيا، وأتوسم فيك أن تكون من أخيار الخطاطين في العالم الإسلامي، فلك أهدي أزكى التحيات لما أنت عليه من تقدم دائم». وقال أيضاً: «ولد الخط في بغداد وعاد إليها».

*اما الخطاط الشهير المرحوم أبي راقم هاشم محمد الحاج درباس القيسي المعروف بـ (البغدادي)، فولد عام 1917 في محلة (خان لاوند) ببغداد، وتوفى في 30 نيسان 1973، الذي يعد علماً بارزاً من أعلام الخط العربي في العالمين العربي والإسلامي.. وقد كان نموذجاً فريداً ومتميزاً للخطاط والفنان المتقن لفنون وشكلية الحرف العربي الذي أجاد بكل ما يملك من موهبة وثقافة أكتسبها منذ بداياته لرسم الحرف رسماً دقيقاً متكاملاً سليماً، معافى، بعيداً كل البعد عن جميع التيارات التي حاولت إقلاع أصالة الحرف عن جذوره، أو تشتيته.. وقد أضاف رونقاً جديداً لشكل الحرف وسيولة أبعاده، فحاول من هذا الإدراك أن يعطي للحرف اكتماله وصورته المرنة، وعبر امتيازات اجتهادية فنية رائدة.

لقد أستطاع البغدادي بقدرته الذكية ان يتفوق بجدارة على بعض الشوائب التي لازمت الحرف، فبادر برصد التجويد المتقن لملامحه وإدراك أسراره فجدد الأصول ونقح المناهج.. رافضاً رفضاً قاطعاً المفهوم التجاري الذي يهدم بنيان فن الخط العربي، وعبر عن استيائه العميق في مسألة الخروج عن القاعدة التي رسمها أسلافه الخطاطون من قبله، كذلك لم يكن في نظره كتابة الحرف المعروفة، بل كان عالماً روحياً عميق الدلالة والمعنى.

وقد أشتهر البغدادي بغيرته على قواعد وأصول الخط العربي وضبطها وعدم التسامح في تغيير صورته الجمالية، بل أكد على الابتداع في (التجويد) للحرف.. ولو تفحصنا ملياً مسيرة البغدادي الفنية نلتمس بوضوح أنه قد رسم ملامح متميزة خاصة لصورة كتابة الحروف دون المساس او الاختلال في قواعدها.

ان مثل هذا الابداع لم يأت بطريقة اعتباطية، بل جاء وليد مشقة مسيرة طويلة مليئة بالصبر العنيد والتضحية الجادة والولع الشديد وهيامه بحبه لفن الخط وقدسيته الدينية لمكانة الحرف الذي اخذها منذ صباه من خلال تعلمه وحفظه للقرآن الكريم على يد (الملالي)، ولم يتشتت البغدادي منذ بداياته في هوايات أخرى، فقد صب جل جهده ووقته لاستقصاء أسرار والغاز فن الخط حصراً، وكتابة المشوقات المستمرة, واجادته أنواع الخطوط العربية بضروبها إجادة تامة، كل ذلك جعل خطه يمتاز بالقوة والرشاقة وتنسيق جمالية التركيب، وتكوين الموضوعات الفنية بأشكال هندسية وزخرفية متناسقة فنياً وفكرياً، فضلاً من جعل كتاباته المتناظرة ايقاعاً موسيقياً جميلاً ذا قيمة جمالية عالية.

وأخذ يتعلم قواعده وفنونه عن المرحوم (الخطاط الملا عارف الشيخلي) وكان من الطلاب المجتهدين والنشيطين في مجال الخط، إذ كان يستوعب أسرار فنون الخط بذكاء عجيب، كذلك أخذ يراجع العلامة الشيخ (الملا علي الفضلي) الذي كان يدرّس علوم القرآن الكريم واللغة والعروض واصول الخط العربي في جامع الفضل.. وبقي يكتب ويتمرن والملا علي الفضلي يصلح له ويعجب بخطه ويشجعه ويوجهه، حتى منحه (الاجازة) بالخط العربي عام 1943.

وفي عام 1937، عين خطاطاً مستخدماً في مديرية المساحة العامة، حيث إلتقى هناك بحكم عمله مع الخطاطين الرواد المبدعين، أمثال صبري الهلالي، وعبد الكريم رفعت وغيرهم حتى عام 1960، حيث نقل ملاكه إلى وزارة التربية واختير رئيساً لفرع الخط العربي والزخرفة في معهد الفنون الجميلة ببغداد، وفيه تتلمذ على يده العديد من الطلاب الموهوبين وتميز بعضهم.

وفي عام 1944 سافر إلى مصر لينتسب لمعهد تحسين الخطوط بالقاهرة، وقد عرض عليهم (الاجازة) وقدم كذلك نماذج من بعض خطوطه، فنالت إعجاب الأساتذة المشرفين على المعهد، وأتخذت ادارة المعهد قراراً بمشاركة البغدادي في الامتحان الأخير للصف المنتهي، فحاز على (الدرجة الأولى بامتياز)، وقد أجازه الخطاط المصري الشهير (سيد إبراهيم) إجازة خاصة، وكذلك الخطاط (محمد حسني) في السنة نفسها.. طلبت منه ادارة المعهد أن يبقى في مصر للتدريس في المعهد وبراتب مغرٍ فأبى.

ولم يكتف البغدادي بهذه الشهادات الفنية، إذ كان طموحاً إلى أبعد نقطة، فسافر إلى تركيا لمشاهدة الخطوط الرائعة التي خلفها عظماء الخطاطين الأتراك أيام العثمانيين، إذ انه تأثر بالخطاطين الأتراك وأعتبرهم المثل الأعلى في التفوق.

أصدر البغدادي سلسلة من أربعة أجزاء في (خط الرقعة) عام 1946، وهي معدة للتعليم في المدارس الابتدائية، إلأ ان إصدار مجموعته الرائعة والمتفردة (قواعد الخط العربي) عام 1961، كانت أهم وأرقى مجموعة للخطوط العربية كافة، ظهرت حتى الآن في العالمين العربي والاسلامي.. بل تعد بمثابة (مدرسة) ابداعية وتعليمية شاملة.. حيث وضع عصارة جهده وبحثه فيها من أجل إعادة (القاعدة البغدادية) إلى العراق. (لكن للأسف الشديد أن أكثر الخطاطين العراقيين، ما يزالون يكتبون وفق القاعدة العثمانية..)!

ومن آثاره المهمة كذلك التي يعتز بها كثيراً (مصحف الأوقاف) الذي طبعته مديرية المساحة العامة ببغداد لأول مرة سنة 1370 هـ بإشرافه على نسخة للخطاط محمد أمين الرشدي، ثم أعيد طبعه في المانيا مرتين، وقد قام بتذهيبه وترقيم آياته وكتابة عناوين السور والأحزاب والسجدات. كما وضع له زخرفة متميزة (لفاتحة الكتاب وأول سورة البقرة)، فكان بحق تحفته الفنية النادرة والنفيسة.

كذلك زين البغدادي الكثير من المساجد في بغداد وأماكن أخرى في العراق بأروع ما رصعته أنامله من خطوط الكتابة على سطور المحاريب والقباب والمآذن، فكانت في غاية الفخامة والروعة والعظمة في حسن التراكيب والتداخل بين الحروف، فضلاً عن تصميمه وخطه للكثير من المسكوكات والعملات النقدية لعديد من الدول العربية، وهذا ما يدل على انتشار صيته وشهرته ومكانته الرفيعة بين الدول والنخب الفنية.

 

 


مشاهدات 90
أضيف 2025/05/14 - 4:24 PM
آخر تحديث 2025/05/15 - 3:18 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 834 الشهر 18719 الكلي 11012723
الوقت الآن
الخميس 2025/5/15 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير