الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
أحمد زكي كاظم الأنباري..  بين ضوء الكلمة ونبض التاريخ

بواسطة azzaman

أحمد زكي كاظم الأنباري..  بين ضوء الكلمة ونبض التاريخ

محمد علي محيي الدين

 

 في صباحات مدينة المسيب الوادعة، ولد الأديب والشاعر أحمد زكي الأنباري بتاريخ التاسع والعشرين من حزيران عام 1949م. هناك، في أزقتها التي تفوح منها رائحة التاريخ، خطا خطوته الأولى نحو المعرفة عندما التحق بـ»مدرسة التهذيب» الابتدائية عام 1952م، ومنها تفتحت روحه على أفق أوسع من الحلم.

  واصل دراسته حتى أكمل مرحلتي الابتدائية والمتوسطة، ثم انتقل إلى دار المعلمين في مدينة الحلة، حيث تخرج فيها عام 1967م حاملاً رسالة العلم والتربية. استهل مشواره المهني في الجنوب العراقي، معلمًا في ناحية السيبة بمحافظة البصرة لعام دراسي واحد، قبل أن يأخذه القدر إلى محافظة ديالى ليغرس هناك بذور العلم في أكثر من قرية لمدة ثلاث سنوات. وفي عام 1970م، عاد إلى محافظة بابل ليبقى معلمًا في مدارس قضاء المسيب (الدرعية، اليرموك، المثنى) حتى عام 1992م، حيث أنهى رحلته التعليمية بالتقاعد، لكنه لم يغادر ساحة الكلمة.

  منذ صباه، كان الأدب والتاريخ رفيقيه الأوفياء. كتب الشعر بروح العاشق المتيم، فنشرت قصائده في الصحف والمجلات العراقية والعربية المرموقة مثل مجلة الإذاعة والتلفزيون، وألف باء، وصحيفة الدستور اللبنانية. ولم يكن الشعر منفاه الوحيد، إذ سرعان ما اتجه صوب النقد الأدبي، كاشفًا عن ذائقة ناقدة مرهفة، وكتب استعراضات نقدية ومقالات أدبية في صحف عديدة مثل: الجنائن، الجمهورية، الصباح، المشرق، الفرات، والفيحاء، فضلًا عن مساهماته في مجلة العرب السعودية والمثقف العربي والذخائر.

  لم يكن أحمد زكي الأنباري شاعرًا وناثرًا فحسب، بل كان أيضًا شاهدًا على الحراك الثقافي المحلي، مشاركًا بشعره في العديد من المحافل الأدبية، رافعًا لواء الكلمة الحرة في زمن عسير. ففي عام 2005م، توجت مسيرته الأدبية بعضوية اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين، اعترافًا بعطائه الغزير وحضوره الفاعل في المشهد الثقافي. وقد أنصفه الباحث سعد خليل الكبيسي بكتاب تناول بعضًا من ملامح تجربته الشعرية بعنوان: «قبسات من أشعار الأديب الأستاذ أحمد زكي الأنباري» (دار الفرات – بابل).

أما حصاده الأدبي، فتمثل في مؤلفات امتدت بين التأريخ والشعر والنقد، ومن أبرزها: المسيب: تاريخ وحياة، معجم شعراء شواهد القاموس المحيط، معجم شعر وشعراء أساس البلاغة، شعر الناجم (سعيد بن الحسن الناجم)، شعر أمية بن أبي عائذ، تحقيق الجزء الحادي عشر من كتاب «مرآة الزمان»، نجد في الشعر العربي (صادر عن مؤسسة البابطين)، العليون من الشعراء (طبعة إيران)، كاظمة في الشعر العربي (مؤسسة البابطين) مع مؤلفات أخرى.

درب مخلص

وهكذا انتقل من معلم في القرى الصغيرة إلى شاعر تفيض قصائده شغفًا، ومن ناقد فطن إلى مؤرخ يلتقط تفاصيل الحياة بعين المحب، مضى الأنباري في دربه مخلصًا للكلمة، حافظًا لذاكرة المكان، ومؤمنًا بأن الكتابة بحد ذاتها مقاومة ضد النسيان. وفي كل سطر من كتاباته، ينبض صوت العراق... صوت الأرض والإنسان.

   وفي عالمٍ تخلت فيه الأشياء عن معانيها، وغرقت الجماليات في وحل العدم، تبرز القصيدة بوصفها مرآة لزمن مقلوب. ومن شعره قصيدة «كاركتير» التي لا تكتفي بأن تصور العبث، بل تعيشه لغةً وصورةً وأداءً. وسنحاول تفكيك نسيجها الفني والكشف عن أسرار صورها المشحونة بالألم والمفارقة، عبر رحلة بين الطحالب المريضة والقصور الصفيحية، في عالم لم يعد يعرف النظام ولا الجمال.

تقدم القصيدة لوحة شعرية معبرة عن عالم عبثي مختل، حيث تنقلب المفاهيم، وتتداخل الصور المتناقضة، وتنهار القيم الجمالية. في هذا المقال، نتناول القصيدة من ثلاثة جوانب رئيسية: الجانب الفني، الصور الشعرية، والأداء اللغوي.ففي الجانب الفني: تدور القصيدة حول فكرة مركزية هي فوضى العالم وانعدام النظام، ويعبر الشاعر عن ذلك من خلال نص متحرر من قيود الوزن والقافية التقليدية، مما يجعل القصيدة تنتمي إلى قصيدة النثر أو الشعر الحر. هذه الفوضى الشكلية ليست ضعفًا، بل تتسق تمامًا مع مضمون القصيدة؛ إذ أن انفلات البنية الخارجية يوازي انفلات العالم الداخلي الذي تصفه. ورغم غياب النظام الظاهري، إلا أن النص يحافظ على وحدة شعورية واضحة، حيث تتلاحق الصور ضمن سياق يرسخ الفكرة الأساسية: عالم يسوده التشوه والخراب.وتتميز القصيدة بتقديم صور كلية مكثفة، من أبرزها: فراشة وثير: صورة تجمع بين الرقة والراحة، في مفارقة تكشف سطحية النعيم الزائف،  خيوطه من باسق النخيل: مشهد يستخدم عناصر الطبيعة الراقية في تكوين أشياء هامشية، مما يعكس تبديد القيم. قصر من القصدير والصفيح: مفارقة تجمع الفخامة الظاهرية بالهشاشة الحقيقية. حورية زينتها سخام: صورة سريالية تمزج الجمال بالقبح، مما يزيد من شعور التناقض والغرابة. بحيرة منزوعة اللسان: رمزية عميقة للعجز والخرس وسط عالم يبدو ميتًا رغم حركته.  وإلى جانب الصور الكلية، تبرز تفاصيل دقيقة ذات دلالات قوية: بعوضها حمام: انقلاب وظيفي ساخر بين الحشرات والطير النبيل، يوحي بتبدل القيم. طحالب مخضرة من شدة الزكام: تجسيد للطبيعة المريضة، عبر شخصنة الطحالب ومنحها صفات إنسانية.

لقد اعتمد الشاعر على تقنيات بلاغية متعددة، مثل: الاستعارة: تحويل المعاني المجردة إلى مشاهد محسوسة. المفارقة: إبراز التناقض بين المظهر والحقيقة. الشخصنة: إضفاء الصفات الإنسانية على الجمادات والكائنات الصغيرة لإبراز التشويه في العالم.

أما الأداء اللغوي فقد جاءت لغة القصيدة بسيطة في ظاهرها، لكنها محمّلة بالإيحاءات العميقة، من خلال:    استخدام كلمات ذات دلالات ثقيلة مثل: «نفايات»، «سخام»، «دخان»، «زكام»، «صفيح». والابتعاد عن التراكيب المعقدة، مما أضفى على النص سرعة وتوترًا يتناسبان مع الفوضى الموصوفة.ورغم غياب الوزن التقليدي، تحقق القصيدة نوعًا من الموسيقى الداخلية عبر: التكرار الخفيف لبعض التراكيب. السجع العفوي بين الكلمات (مثل «سخام» و»زكام»)، مما يخلق إيقاعًا خفيًا يعزز الجو الكئيب للنص.

وتلجأ القصيدة إلى تحطيم التراكيب المألوفة للغة، ما يمنح النص طابعًا صادمًا ومتمردًا، كما في قول الشاعر:” بحيرة منزوعة اللسان».

هذه القصيدة تمثل نموذجًا فنيًا صادقًا للتعبير عن الفوضى الوجودية. عبر صور مكثفة، وأداء لغوي مشحون، وبنية متحررة من القيود التقليدية، استطاع الشاعر أن يرسم عالمًا مقلوبًا تتلاشى فيه الحدود بين الجمال والقبح، الحياة والموت، النظام والفوضى.

 


مشاهدات 57
الكاتب محمد علي محيي الدين
أضيف 2025/05/10 - 12:35 AM
آخر تحديث 2025/05/10 - 6:29 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 416 الشهر 11665 الكلي 11005669
الوقت الآن
السبت 2025/5/10 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير