صعود اليورو وعودة الحسابات الصعبة في بغداد
أسامة أبو شعير
من الرسوم الجمركية إلى السيادة النقدية… معركة العملات تدخل مرحلتها الأوروبية، وبغداد تتأهب لحسابات غير مسبوقة
في الوقت الذي تحتدم فيه المعارك التجارية والبيانية بين واشنطن وبكين، يبرز محورٌ ثالث بهدوء أقل، لكن بأثر لا يقل خطورة: تحوّلٌ محتمل في مركز الثقل النقدي العالمي، حيث يسجل اليورو نقاطًا على حساب الدولار الذي بدأ يفقد شيئًا من هيبته. وفي الزاوية الأخرى من الخريطة، وتحديدًا في بغداد، تجري تحولات هيكلية في القطاع المصرفي تشير إلى أن العراق يقرأ المشهد العالمي، ويستعد – ولو بصمت – لموجة جديدة من التغيرات الاقتصادية التي لن تنتظر أحدًا.
اليورو يتقدّم… والدولار يترنّح؟
أظهر تقرير نشرته The American Prospect أن الأسواق لم تعد تثق في الدولار كملاذ آمن كما كان الحال تاريخيًا، خصوصًا بعد تصريحات ترامب المتقلبة حول الرسوم الجمركية. على عكس ما هو متوقع في أوقات الاضطراب، لم يصعد الدولار، بل تراجعت قيمته، وارتفعت الفائدة على ديونه.
هذا التحول الدقيق لكنه عميق، يمنح الاتحاد الأوروبي فرصة نادرة لإعادة تقديم اليورو كعملة احتياطية عالمية. لكن ذلك يتطلب من بروكسل أن تتجاوز حساسيتها تجاه طباعة النقود وتوحيد الدين العام، كما فعلت خلال الجائحة. وإذا تحقق هذا التحول، فإن دولًا مثل العراق – التي تعتمد بشكل مفرط على الدولار في احتياطاتها وتعاملاتها – ستتأثر بشكل مباشر.
بغداد تتحرك: إصلاح المصارف لبناء مناعة مالية
ربما لا تظهر بغداد على رأس العناوين، لكنها تشهد من الداخل تحوّلًا لافتًا. فقد أطلق البنك المركزي العراقي، بالتعاون مع شركة “أوليفر وايمن”، مشروعًا إصلاحيًا واسعًا يستهدف القطاع المصرفي الخاص، يهدف إلى:
• تعزيز الشمول المالي في جميع المحافظات،
• رفع كفاءة وإنتاجية البنوك،
• تحديث البنية الرقمية للمدفوعات والهوية المصرفية،
• ترسيخ معايير الحوكمة والامتثال المالي الدولي.
الأهم من ذلك أن هذا المشروع الإصلاحي يتزامن مع اضطراب محتمل في النظام النقدي العالمي، ما يمنح العراق فرصة نادرة لتقوية بنيته المالية قبل أن تهب عاصفة العملات.
أسعار النفط تهبط… والإنذار يُقرع
وبينما تخوض بغداد معركتها البنيوية في النظام المصرفي، تتلقى ضربة غير متوقعة من جبهة أخرى: أسعار النفط. فقد انخفض سعر خام برنت إلى ما دون 60 دولارًا للبرميل للمرة الأولى منذ عام، بسبب وفرة المعروض وتباطؤ النمو في الصين وتزايد المخاوف من الركود في الولايات المتحدة.
ولأن 93 بالمئةمن إيرادات الدولة العراقية تأتي من النفط، فإن هذا الانخفاض يفرض ضغوطًا هائلة على الموازنة العامة، وقد يضطر الحكومة إلى إعادة ترتيب أولوياتها الاقتصادية بشكل سريع.
النتائج المباشرة المحتملة تشمل:
• توسع العجز المالي،
• تأجيل مشاريع البنية التحتية،
• زيادة الاعتماد على الدين الداخلي،
• وربما اللجوء إلى أدوات تمويل خارجية أو موجهة عبر القطاع المصرفي الذي يخضع حاليًا للإصلاح.
نقطة التحوّل: العراق في قلب الإعصار النقدي
إذا استمر تراجع الدولار العالمي، وصعد اليورو أو حتى اليوان كبدائل، فإن العراق سيحتاج إلى:
• تنويع احتياطاته النقدية وتقليل اعتماده الحصري على الدولار،
• إعادة هيكلة عقود التصدير والدفع،
• تطوير أدوات تحوط لحماية الاقتصاد من تقلبات أسعار العملات،
• والأهم: بناء قطاع مصرفي موثوق وقادر على دعم الاقتصاد الحقيقي.
وهنا، لا يعود إصلاح النظام المصرفي مجرد سياسة مالية، بل خط دفاع وطني في معركة اقتصادية بدأت دون إعلان رسمي.
الخاتمة: من حروب الرسوم إلى معركة الثقة… مستقبل العراق يُكتب الآن
تابعنا في الإعلام كيف تحولت الرسوم الجمركية إلى أدوات ضغط، وكيف أصبحت البيانات سلاحًا، ثم كيف صارت براءات الاختراع والذكاء الاصطناعي جبهات قتال غير تقليدية. اليوم، نصل إلى المرحلة الأهدأ ظاهريًا… والأخطر جوهريًا: معركة العملات والثقة والسيادة المالية.
في هذا الزمن الجديد، لا يكفي أن يكون لديك ثروات تحت الأرض، بل يجب أن تبني نظامًا فوق الأرض يستطيع إدارتها بأمان، وتحويلها إلى قيمة مستدامة. ومع انخفاض أسعار النفط وتراجع الدولار، أصبح إصلاح القطاع المصرفي العراقي ليس خيارًا، بل شرطًا للبقاء.
هذا ليس مقالًا عن السياسة النقدية، بل دعوة مفتوحة لكتابة قصة اقتصادية جديدة للعراق—قصة لا تبدأ من سطر الصدمة، بل من عقلٍ يرى، ويخطط، ويبعث الأمل من داخل الأرقام.
(كل أزمة تخفي فرصة… وكل فرصة لا تُستثمر، تتحول إلى أزمة قادمة).
خبير اقتصادي ومستشار دولي للسياسات التعليمية والتنمية-