لأغراض هذا المقال تتعدد معاني الرواية: فهي الرواية المكتوبة أو المحكاة، وهي التصريح أو الإدعاء، وهي القول غير الفعل.
أما القصر، فهو الآخر في معانيه المتعددة: فهو القصر الفخم، وهو السلطان والقوة، وهو صاحب الكيس والدراهم، وهو الآمر الناهي.
كنا نجلس خاشعين على بسط المساجد وفي دهاليز الحسينيات ونسمع عن زهد عمر وعصامية علي، وعن قليل تمرات الغداء والعشاء. تدمع أعيننا، ويسري تأنيبنا لضمائرنا ونحن على موعد طعام شهي بعد الانتهاء من الصلاة!
نتحامل على ما نسمعه من بذخ قصور الفرس والرومان، ونتباهى ببساطة تجهيزات فرساننا الأبطال المجاهدين في الله. هنا يقوم أحدهم مخاطباً ومتوعداً خليفة المسلمين بالعدل والانصاف، وهناك من يبات وقد لف بطنه حزام من حجارة لقهر ألم الجوع.
لقد بتنا يطربنا جلد الذات في روايات زهد الأولين السابقين من الصحابة والأبرار، بعد أن تفنن فينا الدعاة والوعاظ استثارة للعواطف وندباً للحال.
كم كنا عتبنا على هارون الرشيد جواريه وكؤوس الخمر بعد صلاة العشاء، رغم أنتا أحببناه على ما عاشته بغداد من سلام ورفاه. هكذا صورت لنا الروايات التي تذكر بوجوب نقاء الدين وزهد الحياة.
كان يكفينا أن نرى بيوت الطين المتهرئة ونعيش عواصف تراب الصحاري والخيم الممزقة وأشجار النخيل العطشى وحبات التمر اليابسة لنعرف أننا في مدن صحابة الإسلام، ممن فهم الدين عذاباً وقسوة.
ومن كثرة ما قرأنا وسمعنا وتربينا عليه وتحدثنا به، لا بل وتنافقنا (من النفاق) في تنافس حوله، ظننا أن من سيتولى أمرنا من أولئك الدعاة والوعاظ الزاهدين، سيملؤون الأرض عدلاً، وسيشبعون البطون الجوعى، وسيبقون يبتسمون رغم بطونهم الخاوية وجيوبهم الفارغة وصدورهم التي لا يعمرها غير صدق الايمان!
لكننا تفاجأنا وأي تفاجئ؟! رغم انهم استمروا على كذب ودجل ونفاق، بعد أن تبين أنهم، وفي غالبيتهم، باتوا يسكنون القصور المتخمة بملذاتها وجواريها، وبما تمتلىء به خزائنهم وبما يثقل حساباتهم المصرفية!
في زاوية من زوايا قصر أحدهم قامت مكتبة ضمت كثيراً من روايات زهد هذا وعفة ذاك. يبدو أنها لم تعد تعني سوى تعاويذ معلقة على جدران، وحجابات تفسد سحر عيون الحاقدين والحساد! سواعد النساء وأعناقهم وسيقانهم تحمل قلائد الذهب والمرجان، وأصابع رجالهم أحاطتها محابس الأحجار الكريمة بألوانها التركوازية والقرمزية!