الثورة العلمية في مجال تكنولوجيا المعلومات أبادت وظائفا وحرفا كثيرة وخلقت وظائف جمة ،اذ انتهى عصر البريد القديم والرسائل والمغلفات الملونة وكارتات المناسبات ، وحل محلها البريد الإلكتروني وعشرات مواقع التواصل الاجتماعي. وبات بإمكان الإنسان أن يرسل مشاعره وانشغالاته العاطفية وأعماله التجارية وغيرها من أقصى الأرض إلى أقصاها خلال ثوان ولعدة أطراف وبنفس اللحظة، وأضيف إليها الصوت والصورة مع تأطير وتطريز بما يهوى ويجتهد.
هكذا نشأت علاقات إنسانية رائعة بين مختلف الشعوب وشتى الأعراق والنحل، و ما عاد ذلك الرجل يحمل على كتفه تلك العصا الكبيرة مشدودا عليها قوس يتبعه صبي صغير، يدور على قدميه مناديا بصوت جهوري ( يندف قطن يندف صوف يمسك أفاعي يصلح دفوف، ) وحلت محله مكائن ميكانيكية تقوم بأضعاف عمله في دقائق وبدون جهد بدني ولكن لا دخل لتلك المكائن بمسك الأفاعي ولا تصليح الدف والرق.
كل شيء في حياتنا تغير وبصورة مذهلة، بحيث لو أن أحد أجدادي عاد للحياة ورأى ما يحدث الآن لصعق ومات في محله من هول المفاجأة التي يعجز العقل عن إدراكها.
كنت شاهدا على احد التطورات الجديدة، اذ أن والدي (رحمه الله ورحم امواتكم)، كان واقفا أمام حانوت لبيع السجائر، وطلب نوعا أجنبيا معينا، وقد حصل على ما أراد، ولكن عند دفع النقود وقف والدي واجما مشدوها حين قال له البائع: ألا تعرف ثمن هذا النوع؟. أجاب والدي لا يا ولدي ففي كل أسبوع أشتري هذه الكمية وبنفس السعر الذي ذكرته وهو 3500 دينار، ولكني تذكرت أني قبل 7 سنوات مضت بعت منزلا عائدا لي مساحته 600 متر وفي منطقة راقية بالمدينة بـ 3500 دينار أيضا.
لم أستطع أن أستوعب التغير الذي حصل. نعم التغيير سريع وهائل ولكن كل شيء يمضي للتحول إلا مفكرينا وقادتنا السياسيين ونظرتهم الينا، فلم تعد تلك الأفكار القومية البراقة تجذب الملايين من الخليج الثائر إلى المحيط الهادر، ولم تعد شعارات الشغيلة والفلاحين والإصلاح الزراعي وتأميم النفط تداعب عواطف الشعوب، وعلى العكس اذ تسعى الدول بكل طاقتها إلى جذب استثمارات رأس المال إلى أوطانها وبتسهيلات هائلة، ضاربة عرض الحائط، كل تلك الشعارات الستينية والخمسينية ، وأصبحت قداحات السجائر الإلكترونية التي تعزف الموسيقى مع نشرة ضوئية هي السائدة فما بال البعض بل الكثير لازال يتغنى بالقداحة التي كانت تعمل بالبنزين والفتيلة القطنية وحجر القدح.
العالم أصبح قرية واحدة ،وأزيلت الجدران والستر الحديدية بين الشعوب ولم يعد الكذب والادعاء بضاعة رائجة في الإذاعات الصوتية الجماهيرية، فلقد طرد التلفزيون جهاز الراديو وأحال على التقاعد، دور السينما الكبيرة وقام الموبايل بطرد كل تلك الأجهزة القديمة وأصبح حضور مسرحية، ترفا نادرا جدا، وسيطر العم غوغل على مسرح الأحداث وأخذ ينشأ وظائف كثيرة، فلماذا يصر الكثير على ركوب الحصان والحمار الحساوي في عصر الصاروخ والطائرة النفاثة والقطار فائق السرعة.
العتب كل العتب، هو أن في بلادنا لا يوجد فلاسفة اجتماع ومفكرون يوقظون المجتمع من سباته، وإذا برزوا، سوف نرميهم بالحجارة حتى الموت ونصفهم بأنهم زنادقة ومجدفون وأعداء الله والمسيرة، ويا ظلام السجن خيّم إننا نهوى الظلاما.