من ألمع الوجوه التي أنجبتها إيطاليا في القرن التاسع عشر رجل اسمه جوزيب مازيني (1805 – 1872)، كان من مؤسسي جمعية (إيطاليا الفتاة) التي غدت ملهمة للكثير من الشعوب الأخرى، التواقة للاستقلال. وقد قضى عمره من أجل هدف سام عظيم هو نشوء الجمهورية الإيطالية.
ومن أقواله الخالدة التي ماتزال موضع اهتمام رجال السياسة، أن البلدان الصغيرة ذات اللون الواحد يجب أن تحكم بالانتخاب، وتساس بالشورى، في ما لا يصدق ذلك على الإمبراطوريات والدول الكبرى، بسبب تعدد الأجناس، والأعراق، والثقافات، فهي لا تحتفظ بتماسكها إلا بحكم استبدادي، يقيها من الضعف والتفكك والانهيار.
لقد قاد مازيني ثورة شعبية كان شعارها (الله والشعب)، أسهمت باندماج الولايات الإيطالية، الواقعة تحت حكم عدد من الأمراء والنبلاء، الذين يتوارثون السلطة، ويسترقون الناس، وكان كل منهم يحرص على استقلال مقاطعته، ويرى أنها ذات خصوصية ما، تميزها عن غيرها، وأن الصلة التي تجمعه بجيرانه عادية جداً، وكان رعاياها منشغلين بتحصيل أقواتهم اليومية عن التفكير في أي شئ آخر، وكانوا مجبرين بسبب نظام الإقطاع على الانصياع لهؤلاء الأمراء، وتنفيذ ما كان يصدر عنهم من أوامر وتعليمات.
وحينما يتأمل المرء هذه الحقائق، ويقارنها بما وقع لدينا من حوادث، يجد أن (مفهوم) الإمبراطورية ينطبق على العراق أيضاً، فهو على صغره النسبي يضم أعراقاً وفئات دينية ومذهبية مختلفة، بسبب موقعه كدولة محورية في الماضي، ولم يؤد نظام الانتخاب الذي شرع عام 2005 إلا إلى ابتعاد هذه المكونات عن بعضها البعض، بل أن ما أثير خلال هذه الحقبة التي منحت الجميع حق حرية التعبير يدل على نفور لدى عدد منها، وميل للافتراق عند الآخر. بل ورغبة في الانفصال أيضاً.
أي أن العراق، الذي هبطت عليه بسبب دوره الحضاري العظيم مجموعات مختلفة، تعايشت مع بعضها خلال قرون من الحكم الفردي أو العشائري الصارم، وجدت فرصتها الآن للانفراد بالعيش بما يتهيأ لها من أراض وثروات طبيعية وعلاقات خارجية، وبدأت تتصرف كشعوب شبه مستقلة داخل كيان امبراطوري واحد، وقد وجدت أنها لا تستطيع أن تحتفظ بعلاقات سليمة مع المركز، بسبب ما لديها من طموحات، وهذا ما يجعل قول مازيني بأرجحية الاستبداد قابلاً للنظر والتأمل.
على أنني أرى أن الفرصة لم تفت بعد في تطوير النظام النيابي القائم حالياً على توازنات قلقة، بشكل يضمن سلامة الدولة، ويتحقق ذلك عبر وضع قيود صارمة على الدعوات الهادفة إلى الانفلات الأمني، والتمزق السياسي، وإنشاء قوات ضاربة، قادرة على لجم أي حركات انفصالية، أو انقلابية، والإتيان بمرجعية سياسية رافضة لأي خطاب يهدد الأمن القومي، فقليل من (الاستبداد) لا يضر العراقيين، بل ينفعهم، ولا يفرق بينهم، بل يجمعهم.
إن كل ما يعانيه العراقيون اليوم من تداخل صلاحيات، وفساد مالي وإداري، وتراجع في قطاعات الصناعة والزراعة والسياحة، ناتج من تضعضع الشعور بالوحدة الوطنية، وهذا ما يجب أن لا يستمر بأي حال من الأحوال.