قراءة نقدية في قصيدة ( الصلب) للشاعر عبد المنعم حمندي
زيد الجواد
القصيدة:
.....
الظلامُ …
الظلام الذي أيقظَ الحلمُ أشجَانَهُ
شارعٌٍ من همومْ
يكتسيهِ الوجومْ
يربكُ الموت في وطنٍ نازفٍ لا ينام
قسّمَ الوحشُ أعضاءَهُ ،
بين ليلٍ وليل ..
ما تَخثَّرَ من دمهِ ،
ضائعٌ بين تلك العواصم ،
....
صرخت نخلةٌ في أعالي الفرات
: ان يوم القيامة يومٌ أليفٌ هنا
فلا الراسياتُ صمدنَ ولا الطيرُ طار
ولا تستطيع السماء الهبوط ،
ولا الغيمة العاليهْ
وكل الشوارع حبلى ، زحرن من السُكر
والناس تمشي إلى الهاوية
.....
عندما جاءت الظُلماتُ ،
صنعنا لكلِّ إلهٍ قبيلاْ
وانتمينا له ،
وأكلناهُ في الجوعِ ربّاً جميلاْ
وارتضينا بما ينسبون ،
وما صوّر الأولون
وما نجّمتهُ الرياحُ لنا بُكّرةً وأصيلاْ
ليس هذا إفتراء
على هامشٍ في المتونْ
ولا خلق آلهةٍ من خيالِ المُجونْ
......
ها هُنا ينحني النهرُ
قبل النخيل
ودمي ..، الماءِ
يسقي عطاشى السبيلْ.
يتنفّسُ في رئَتّينِ على حجرٍ- ،
قاتلاً أوقتيلْ
والمصائبُ مقبرةٌ ،
يبقرُ الموتُ أحشاءَها
ويغير أرض السواد
هو ذا طيننا مذ جبلنا به
مذ رفعنا البنود
و نقشنا النواويس قبل اللحود
......
ما الذي يُشعِلُ الثلج في الحالمينْ؟
غَيرُ ما إقترفَ إلإثمُ
أضحيةً للسماءْ
و مَرَارَاتُنا حكمةٌ ،
وقرابين مغسولةٌ بالدماءْ
لملاقاتها،
يُولَدُ الحلم في فجرها ،
والمنايا إماءْ
.....
وطني
صلبوهُ على جذعِ قرنٍ
بعمرِ الدهورْ
أكل الطيرُ من رأسهِ ،
واستوى صدّرهُ
ملعباً للنسورْ
أنهم يصلبون الهواء
صلبته الأساطير في كتب الأولين
كتبٌ أم غثاء ؟
...
-أسودٌ دمُها-
تنزفُ الكلماتِ قَذىً. ورماداً ودودْ
تلتقي
بالرؤى المُعتمات ..
بأساطيرَ من قينُقاع اليهودْ
.....
قد طوينا العصورَ ،
ولم نهتدِ في السبيلِ السبيلاْ
والذي اسْتَصرَخَ الأَمس
يبطشُ في النخلِ ،
هل يَرِثِونَ السمواتِ ..
أم يرثون النخيلاْ ؟
......
أيها الصاعدون إلى الشمس
حلمُ الفراشات ،حلمٌ قديمٌ هنا
فكبف يرانا الذي لا نراه؟
وكيف يكون إنتحار المغيب؟
ولكنهم وَأدوا الحلمَ ، والروح مطفأةٌ
ودخان دمي سلّمٌ للصليب
.......
" عبد المنعم حمندي"
------------------------------
( القراءة النقدية للقصيدة )
تمثل قصيدة (الصلب) للشاعر عبد المنعم حمندي نموذجاً رفيعاً لـ "شعرية الفجيعة" في الأدب العراقي المعاصر. هي نص لا يكتفي برصد الحدث السياسي، بل يحوله إلى بنية أسطورية ووجودية شاملة.
سنقدم تحليلاً نقدياً وافياً للقصيدة من عدة زوايا:
1. البنية التشكيلية (الصورة الشعرية)
يعتمد حمندي في هذه القصيدة على الصورة الكلية بدلاً من الصور الجزئية المشتتة. القصيدة تبدأ بالظلام وتنتهي بالصليب، وبين البداية والنهاية هناك "شارع من هموم" و"وطن نازف".
أ- تشييء الموت: الشاعر يجعل الموت كائناً "يرتبك"، والوحش "يقسم الأعضاء". هذا التجسيد للألم يمنحه ثقلاً مادياً يجعل القارئ يشعر بوطأة المأساة.
ب- المفارقة الصادمة: قوله (إن يوم القيامة يوم أليف هنا) هو قمة "السخرية السوداء". الشاعر يكسر هيبة أهوال القيامة ليعلي من شأن أهوال الواقع، مما يوحي بأن العراقي قد تجاوز حدود القدرة البشرية على الاحتمال.
2. المرجعية الأسطورية والرمزية
يستدعي حمندي رمزين دينيين وتاريخيين متداخلين:
أ- رمزية المسيح (الصلب): لا يحضر المسيح كشخص، بل كحالة. الوطن هو المصلوب، ودم الشاعر هو السلم. هذا الاستدعاء يمنح المعاناة الوطنية بعداً قدسياً وكونياً.
ب- رمزية النخلة والفرات: هما ثوابت الهوية العراقية، لكنهما في القصيدة "يصرخان" و"ينحنيان". انحناء النهر قبل النخيل في قوله (ها هنا ينحني النهرُ قبل النخيل) يعكس انكساراً في نواميس الطبيعة نفسها نتيجة حجم الظلم.
3. اللغة والإيقاع
أ- اللغة: لغة القصيدة تجمع بين الجزالة التراثية (النواويس، بُكرة وأصيلاً، غثاء) وبين الحداثة التعبيرية (انتحار المغيب، حلم الفراشات). هذا المزيج يعطي القصيدة طابعاً زمنياً ممتداً، وكأن الوجع العراقي يضرب بجذوره في التاريخ السحيق.
ب- الإيقاع: اعتمد الشاعر نظام التفعيلة الذي يمنحه حرية في التنفس الشعري. نلاحظ تكرار حرف "الميم" الساكن في البداية (هموم، وجوم، ينام) مما يخلق نغمة جنائزية تتناسب مع جو "الظلام" الذي افتتح به النص.
4. النقد السوسيوسياسي (الموقف من الواقع)
في المقطع الذي يتحدث عن "صناعة الآلهة"، يقدم حمندي رؤية نقدية حادة للوعي الجمعي:
"صنعنا لكلِّ إلهٍ قبيلاْ / وأكلناهُ في الجوعِ ربّاً جميلاْ"
هنا الشاعر يتجاوز دور "الضحية" ليمارس دور "الناقد". هو يحمّل المجتمع جزءاً من المسؤولية في خلق "الأصنام" (سواء كانت سياسية أو طائفية) ثم الانقلاب عليها، مشيراً إلى حالة من التيه الفكري ("قد طوينا العصور، ولم نهتدِ في السبيل السبيل").
5. الرؤية الوجودية
تصل القصيدة إلى ذروة اليأس الفلسفي عندما يتساءل الشاعر: (كيف يكون انتحار المغيب؟). هو يرى أن حتى "الضوء المتلاشي" يقرر الانتحار في هذا الوطن. الصليب هنا ليس نهاية المطاف للمسيح (الذي يُفترض أن يعقبه انبعاث)، بل هو صليب مستمر، حيث "الروح مطفأة" و"دخان الدم" هو الخيط الوحيد المتبقي للاتصال بالسماء.
قصيدة "الصلب" هي نص "رثاء للوطن وللذات" في آن واحد. نجح عبد المنعم حمندي في تحويل "أرض السواد" من مجرد جغرافيا إلى "نص شعري" مفتوح على الألم الإنساني العام. إنها قصيدة تعيش في المنطقة الحرجة ما بين التاريخ والأسطورة، وما بين الواقع والهلوسة الشعرية.
ويمكن أن نركز على مقارنة هذا النص بنصوص شعراء عراقيين آخرين تناولوا ثيمة "الصلب" و"الوطن"، مثل السياب أو البياتي؟
بناءً على هذا السياق، تبرز قصيدة "الصلب" لعبد المنعم حمندي كجزء من سياق شعري عراقي عريض اتخذ من "الرموز الدينية" وسيلة للتعبير عن المحنة السياسية والاجتماعية.
إليك مقارنة نقدية سريعة تضع حمندي في إطار رفقائه من رواد ومجددي الشعر العراقي:
1. حمندي والسياب: "المسيح بعد الصلب"
• بدر شاكر السياب: في قصيدته الشهيرة "المسيح بعد الصلب"، ركز على فكرة "التموزية" (الموت من أجل الانبعاث)؛ فالمسيح يموت لتخضر الأرض.
• عبد المنعم حمندي: في "الصلب"، نجد الرؤية أكثر قتامة. الصليب عند حمندي ليس بوابة للقيامة، بل هو قدر مستمر. يقول: "ودخان دمي سلّمٌ للصليب". هو لا ينتظر قيامة قريبة بقدر ما يصف حالة "الصلب الدائم" للوطن.
2. حمندي والبياتي: "المنفى والاغتراب"
• عبد الوهاب البياتي: استخدم الرموز الصوفية والأسطورية (مثل عائشة والحلاج) للتعبير عن التيه والمنفى.
• عبد المنعم حمندي: يربط الرمز بالأرض (النخلة والفرات) بشكل مباشر أكثر. الاغتراب عند حمندي ليس مكانياً (خارج الوطن) بقدر ما هو اغتراب داخل الوطن؛ حيث الشوارع "حبلى" والناس تمشي إلى "الهاوية".
محاور المقارنة الفنية
3. فرادة حمندي في "الصلب"
ما يحسب لحمندي في هذه القصيدة هو "جرأة النقد الاجتماعي". هو لم يكتفِ بدور الضحية التي تندب حظها، بل واجه القارئ بحقيقة مرة: أننا نحن من صنعنا أصنامنا بأيدينا ثم عبدناها، وهو ما يمنح قصيدته بُعداً فلسفياً أعمق من مجرد الرثاء السياسي العابر.
قراءة في رمزية (قينقاع اليهود)
ورد في النص الذي أدرجتَه ذكر "أساطير من قينقاع اليهود". هنا يستخدم حمندي الرمز التاريخي ليشير إلى الدسيسة والفتنة التي تُحاك ضد الوطن، أو ليشير إلى أن المحن التي يمر بها العراق ليست وليدة الصدفة، بل هي امتداد لصراعات تاريخية وأساطير "معتمة" تُفرض على الواقع العراقي لتبقيه في حالة نزف دائم.
واذا ما انتقلنا إلى تحليل البنية اللغوية (النحو والبلاغة) في مقطع معين من القصيدة، مثل استخدامه للفعل المضارع (يربك، يكتسيه، ينزف) الذي يمنح القصيدة طابع الاستمرارية؟
وظف الشاعر عبد المنعم حمندي التراث والأسطورة في قصيدة (الصلب) توظيفاً "إسقاطياً"، بمعنى أنه لم يستدعِ القصة التراثية ليرويها، بل ليجعلها قناعاً (Mask) يرتديه ليتحدث عن الواقع العراقي المعاصر.
إليك تفصيل لطريقة استثماره لهذه العناصر:
1. توظيف التراث الديني (الترميز بالصلب)
استعار حمندي صورة "المسيح" ليعبر عن "مظلومية الوطن".
• الإسقاط: الوطن في القصيدة ليس مجرد أرض، بل هو "فادٍ" يُصلب من أجل الآخرين.
• التحوير: في التراث الديني، الصلب هو طريق الصعود للسماء أو الخلاص، لكن حمندي حوّره ليصبح "صلباً للهواء" و**"صلباً على جذع قرن"**؛ أي أنه صلب عبثي ومستمر بلا قيامة قريبة، وهذا ما يمنح النص صبغته التراجيدية الخاصة.
2. التراث العراقي (النخلة والنهر)
النخلة في التراث العراقي رمز للشموخ والعطاء، لكن حمندي وظفها كشاهد "مذبوح":
• يقول: "صرخت نخلةٌ في أعالي الفرات"؛ هنا النخلة ليست شجرة، بل هي "عراقية" تصرخ من هول ما رأت.
• استخدام مصطلح "أرض السواد"، وهو تسمية تراثية تاريخية للعراق، وظفها ليعكس سواد المصير والرماد بدلاً من سواد الزرع والخصوبة.
3. الاستفادة من الأساطير (الخلق والآلهة)
استفاد حمندي من "بنية الأسطورة" ليفسر السلوك البشري في المحن:
• أسطورة الخلق: عندما يتحدث عن الطين: "هو ذا طيننا مذ جبلنا به"، يربط بين أصل الخلق البشري وبين القدر المحتوم بالعذاب.
• صناعة الآلهة: استلهم فكرة الأساطير القديمة التي تصنع آلهتها من التمر أو الطين ثم تأكلها عند الجوع. وظف هذه الأسطورة لنقد "التبعية العمياء" وكيف يصنع الناس "دكتاتورياتهم" أو "أصنامهم" ثم يدفعون ثمن ذلك من دمائهم.
4. التراث الشعبي والمكاني
• النواويس واللحود: استحضار "النواويس" (المقابر القديمة) يربط الحاضر بالماضي السحيق، وكأن العراق منذ فجر التاريخ هو أرض "الجنائز" والقرابين.
• أساطير قينقاع: توظيف هذا الاسم التراثي التاريخي يشير إلى "عنصر الفتنة" أو الغدر الذي يراه الشاعر محركاً لبعض خيوط المأساة، وهو استدعاء للذاكرة التاريخية لتعميق الصراع في النص.
كيف استفاد فنياً من هذا التوظيف؟
1. تعميق الدلالة: التراث منح القصيدة "هيبة" وجعل الوجع العراقي يبدو كأنه صراع قديم وأزلي.
2. الهروب من المباشرة: بدلاً من ذكر أسماء سياسيين أو أحداث معينة، استخدم "الوحش"، "الصلب"، و"الآلهة القبيحة"، مما جعل النص عابراً للزمان والمكان.
3. تجسير الفجوة بين الماضي والحاضر: جعل القارئ يشعر أن ما يحدث اليوم هو نسخة مكررة من أساطير الوجع القديمة.
4. الخلاصة: حمندي لم يكن "مقلداً" للتراث، بل كان "مفككاً" له. هو أخذ من الأسطورة مرارتها، ومن التراث صوره الكبرى، ليعيد صياغة "أسطورة العراق الحديث" الذي يُذبح بين صراخ النخيل وانحناء الأنهار.
و كيف اختلفت رؤيته للأسطورة عن الذين كانوا أكثر تفاؤلاً بالبعث والنشور؟