الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
قراءة بمسرحية الشهداء يقتلون ثانية لفناني ذي قار

بواسطة azzaman

إيحاء المعنى في تأويل المشهد

قراءة بمسرحية الشهداء يقتلون ثانية لفناني ذي قار

رياض سبتي

 

لم يكن العرض المسرحي الذي قدّمته نقابة الفنانين في ذي قار ، عرضاً تقليدياً يتجاور أو يتحاور مع الماضي التقليدي لعموم الفن المسرحي العراقي، بل تكويناً شكلياً ارتقى بذائقة المشاهد إلى مديات جديدة لم يألفها منذ عقود مضت؛ لما امتلكه من قيمة إخراجيّة متطوّرة يساندها في ذلك نصٌّ مسرحيٌ تجاوز المألوف المملّ في كتابة الأعمال المسرحية الدرامية.

بيد أنه من العسير دائماً أن نستخلص من تجربة ناجحة واحدة أن حال المسرح المتذبذب في المدينة قد تغيّر بدرجة كبيرة أو سريعة، بفعل سلسلة من الأحداث الأمنية المتفاقِمة والمحتدمة ، رافقها تدهور واضح في النسيج الاجتماعي تمثّل في هزّات عميقة ومؤلمة شهدتها البلاد منذ عام 2003 فصاعداً. وهكذا فإنّ استعادة حضور الجمهور إلى المسرح في ظلّ ذلك الإقصاء المتعمّد من قبل بعض المسؤولين ، ستكون عملية معقّدة وصعبة وعالية الكلفة فنيّاً، ما لم يحدث تمرّدٌ يخلقه الفنان نفسه، وقد كان حين قرّرت مجموعةٌ من الممثّلين أن يأخذوا على عاتقهم إنتاج هذه المسرحيّة دون حتى تمويل بسيط من نقابة الفنانين العراقيين المركز العام . فما كان لهؤلاء الأبطال لتحقيق هدفهم إلّا المضيّ في التدريبات التي استمرّت لشهور، تحمّلوا فيها ضيم الحرّ في ظلّ انقطاع التيّار الكهربائي وتحت درجات حرارة وصلت حدّاً لا يتحمّله إنسان. لكنهم قرّروا أن ينتجوا هذا العمل تحدّياً وإثباتاً على أنّ فنّانّي المدينة حريصون على البذل، متناسين جميع السلبيات، سعياً للوصول إلى حالةٍ يعيدون فيها المجد المستحقّ لفنّ مدينتهم المتوارث واسمها العريق، ويرتقون به إلى مصافّ الإبداع والتميّز.

وهم الأقدر في كلّ الظروف على إنتاج عمل يليق بهم وبمدينتهم العريقة العظيمة التي أثرت المشهد بأروع الفنانين والأدباء والمثقفين، لتصبح أسماؤهم أيقونات خالدة في الثقافة العراقية ، بل بعضها اثرى المشهد حتى في خارج البلاد ..

بناء الشخصية

وفي العودة إلى العرض المسرحي، لم يكن بناء الشخصيّات بالغ التعقيد درامياً، بل تمّت صياغتها على أنها شخصيّات حقيقيّة جاءت من مجتمع بسيط يتكلّم لغتنا ويحزن ويفرح مثلنا. لكنها مع ذلك كانت (تلك الشخصيّات) بالغة اليقظة وعالية التركيز فيما تقول وتشعر، إلى درجة افترضنا فيها حزناً موضوعياً صاغته أحداث ومكوّنات المسرحيّة مجتمعة، تجاوزت واقعيّة النصّ المحدودة كنصٍّ مسرحي إلى ما وراء الواقعيّة المضطربة التي أدخلنا فيها المخرج متعمّداً، لكوننا عنصراً مهماً من أحداث المسرحيّة.

منذ دخولنا قاعة العرض تمّ استقبالنا واحداً واحداً من قبل الشخصيّة المحوريّة، عرفنا لاحقاً من خلال مجريات العرض أنها شخصيّة الدفّان الذي كان يرشدنا إلى قبورنا (مقاعدنا). منذ دخولنا المحسوب إخراجياً، خلق المخرج يقيناً لدينا وهو أننا جزء من مجموعة الأموات التي على خشبة المسرح، وأنّ ما سيحدث عليها من أحداث سنكون في صلبها إن لم نكن مشاركين فيها وبشكل تفصيلي، وهذا ما حدث، حين خطا المخرج خطوته الكبيرة نحو الأمام وقرّر إنزال الشخصيّتين الرئيستين إلى الشارع (الشهيد رقم 1 مع الدفّان) في فيديو خارجيٍّ بين الناس والأسواق، مع التركيز على عدم خلق مبرّر غير مدروس يمكن أن يتصادم من خلاله مع جمهور المشاهدين، وهذا ليس بالأمر السهل على أيّ مخرج مسرحي، ليبدأ تأويل المشهد وإثارة الأسئلة على حدّ سواء. ذلك حين لم ينتبه الناس لهؤلاء (الشهداء) وهم يجوبون الأسواق، بسبب اللامبالاة التي سيطرت على المجتمع نتيجة للمراحل السياسيّة والمعيشيّة التي أثقلت كاهله وأصبح من الصعب عليه أن يخلق تواصلاً متجانساً بينه وبين نفسه للحدّ الذي نسي فيه قتلاه، لنستنتج بعد هذا المشهد الفكرة الأساسيّة للمسرحيّة وهي أن ليس للشهداء من دور في الحياة التي ضحّوا بأنفسهم من أجلها، بل إن لا تأثير أو تغيير ملموسين فيها بعدما فقد المجتمع القدرة على استثمار هذه التضحيات في إصلاح نفسه ومكوّناته.

بعد عودة الشهيد 1 والدفّان إلى (المسرح- المقبرة) يحلّق بنا المخرج مع شخصيّاته بفنٍّ تمثيليٍّ تلقائيٍّ سليم إلى أماكن بعيدة في العقل الفردي، لتجانس الحوارات وتأثيراتها النفسيّة على المشاهدين الجالسين على مقاعدهم (قبورهم)، على نحو دراميٍّ متصاعد.

ساعدت الضربات الجراحيّة اللّونيّة المحترفة للإضاءة في رسم الضّدّين، كآبة المقابر وحلاوة الحياة على حدّ سواء، خصوصاً في مشهد الشهيدة رقم 6 التي أدّتها الفنانة الواعدة ديما رعد.

لم يترك لنا المؤلّف حوارات ذات نهايات غريبة، ولا تأويلات غامضة متردّدة لا تعيها الذاكرة أو تفكّ رموزها، إلّا وكان المعنى حاضراً أو موحًى به. كان النصّ زاخراً بالمضامين الواضحة لجمهور عاش الأحداث مع شخصيّات المسرحيّة واشترك معهم حتى في الحوارات التهكّميّة التي صاغها المؤلّف في هذا الاستعراض الواقعي الذي رسمه لنا المخرج في النهاية، ليعطينا مسرحاً حيويّاً مثيراً ارتبط ارتباطاً وثيقاً مع الجمهور عبر تفاهم نظريٍّ مبنيٍّ على المؤثّرات السينمائيّة والموسيقيّة التي تخلّلتها تشكيلة من الأغاني الشعبيّة، مما أدّى إلى التجاوب الفطريّ من قبل الجمهور؛ لما أشاعته من أحاسيس وبراعة فنّيّة، حين استخدم المخرج مقوّمات المسرح المعروفة بذكاء واضح في تحريك المدركات الحسيّة لدى المتلقّي، لمعرفته أنّ العمل الفنيّ هو ترتيب للمدركات الحسيّة التي يجسّدها فنّ المعالجة والأداء مع الجمهور، مضافاً إليها الحقائق الحسيّة التي يمتلكها الممثّل، وهذه مجتمعة تحدّد نوعيّة تنظيم جسم العمل الفنيّ الذي سيقدّم لنا كجمهور تحليلاً ما. كلّ هذا بدا مقصوداً ليشكل في النهاية استعراضاً مذهلاً لكلّ شخصيّات العرض مع القيمة الإبداعيّة التي أضافوها إليه، لنرتكن في نهاية العرض إلى أننا أمام عمل مسرحيٍّ قويٍّ ذي مواصفات فنّيّة كبيرة ومتكاملة.

لقد استطاع كلٌّ من المؤلّف جميل الماهود والمخرج فيصل عبد عودة أن يعودا بالمسرح الذي قاريّ ويضعاه في مرتبته الأصيلة المتحضّرة المستحقّة له كما كان دوماً، وأن ينجزا منجزاً ظلّ أبناء المدينة ينتظرونه لسنوات طوال بسبب الأحداث تارةً وبسبب المضايقات التعسّفيّة ضدّ المسرح والفنّ عموماً في هذه المدينة، التي أثبتت آثارها المستخرجة من مواقعها الأثريّة أنها أوّل من استخدم الموسيقى وأوّل من أنتج الملحمة والرواية.

ولا يمكن إلّا أن نثمّن جهود بعض الممثّلين الذين عادوا لأوّل مرّة للتمثيل على خشبة المسرح بعد انقطاع دام لعقود، وهم كلٌّ من الفنان جواد ساهي والفنان سلام الشاهين والفنان حمدان البدري والممثّلة حميدة السعيدي.

شارك في تمثيل العمل كلٌّ من:علي خضير ، عمّار الحجامي ، والشابّة المتألّقة ديما رعد التي أثبتت في أوّل صعود لها على خشبة المسرح أنها ممثّلة صاعدة عندها الكثير من العطاء والطاقة والإبداع.

أما الديكور فقد كان لفيصل الشمّري ونفّذه جواد ساهي وسلام الشاهين.

بينما المؤثّرات الصوتيّة والموسيقيّة كانت من اختيار وتنفيذ علي زيدان حمود.

التصوير الخارجيّ بالفيديو كان للفنان محمّد لطيف عارف ونفّذها على صالة العرض الفنان عمّار سيف.

والإضاءة كانت للفنان علي السراي. أما الأداء الشعريّ للمقاطع الشعريّة فكان للفنان رعد مقيّص.

 

 


مشاهدات 83
الكاتب رياض سبتي
أضيف 2025/12/21 - 3:50 PM
آخر تحديث 2025/12/22 - 5:24 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 147 الشهر 16063 الكلي 12999968
الوقت الآن
الإثنين 2025/12/22 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير