الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
أزمة التفاهة السياسية

بواسطة azzaman

أزمة التفاهة السياسية

نبراس المعموري

 

تشهد الساحة السياسية في كثير من الدول ما يمكن تسميته بـ«أزمة التفاهة السياسية»، وهي حالة يقدم فيها الخطاب السطحي، والشعارات الفارغة، والاهتمام بالمظاهر على حساب الفكر، والبرامج، والمسؤولية الحقيقية. هذه الأزمة لا تتعلق بأشخاص بعينهم بقدر ما ترتبط بثقافة سياسية تسمح للتفاهة بأن تتصدر المشهد، خاصة في ظل الإعلام السريع ووسائل التواصل الاجتماعي.

وتتمثل التفاهة السياسية في تحويل العمل السياسي إلى صراعات كلامية أو استعراض إعلامي، بدل أن يكون مجالًا للتخطيط واتخاذ القرارات المدروسة. ففي كثير من التجارب المعاصرة، نلاحظ أن بعض الحملات الانتخابية تُبنى على مقاطع قصيرة وشعارات جذابة، دون تقديم برامج واضحة أو خطط قابلة للتنفيذ. كما تُستبدل المناظرات الجادة بنقاشات سطحية تركز على الإساءة المتبادلة لا على الأفكار.

وتزداد خطورة هذه الأزمة عندما تصبح التفاهة وسيلة لكسب التأييد الشعبي، إذ يُستبدل الحوار العقلاني بإثارة العواطف، ويهمش أصحاب الكفاءة والخبرة لصالح من يجيدون جذب الانتباه فقط. وقد شهدت بعض البرلمانات، في تجارب متعددة، جلساتٍ تُهدر فيها ساعات طويلة في مشاحنات جانبية، بينما تؤجل ملفات مصيرية تتعلق بالاقتصاد أو الخدمات أو التشريعات الأساسية.

أمثلة تاريخية

أحد الأمثلة الشهيرة في التاريخ المعاصر هو السباق الانتخابي الرئاسي الأمريكي بين دونالد ترامب وهيلاري كلينتون عام 2016. فقد تميزت الحملة الانتخابية بالكثير من الخطابات التي تركز على الهجوم الشخصي، والتصريحات المثيرة للجدل، بدل مناقشة القضايا الجادة مثل الاقتصاد، والوظائف، والسياسة الخارجية. فبينما غابت النقاشات العميقة حول الملفات الهامة، تم استبدالها بتركيز مكثف على تصريحات غير لائقة وصراعات إعلامية.

كما ان في بعض الدول الشرق أوسطية، مثل لبنان أو مصر، تتكرر ظاهرة استخدام السياسة كمجال لعرض المهارات الخطابية وحصد أصوات الناس باستخدام شعارات عاطفية لا تحمل مضمونا حقيقيا. في الانتخابات الأخيرة في لبنان، على سبيل المثال، وجهت انتقادات إلى بعض السياسيين الذين استخدموا الوعود الوردية لإقناع الناخبين، بينما تركز الخطاب على قضايا مثل المذاهب والانتماءات السياسية أكثر من التركيز على إصلاح الاقتصاد أو تطوير التعليم.

التفاهة السياسية

يعاني العراق منذ سنوات طويلة من أزمات متراكمة على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والمتابع للشأن العام يلاحظ بوضوح تفاهة بعض السياسيين في الأداء والخطاب، وهو ما انعكس سلبًا على ثقة المواطن بالدولة ومؤسساتها. وتتجلى هذه التفاهة في الانشغال بالصراعات الشخصية والحزبية الضيقة بدل التركيز على هموم الناس الحقيقية، مثل البطالة، وسوء الخدمات، والتعليم، والصحة. فعلى سبيل المثال، تتكرر الوعود بتحسين الكهرباء أو مكافحة الفساد في كل دورة انتخابية، دون أن يلمس المواطن تغييراً حقيقياً على أرض الواقع. كما تدار بعض الأزمات الخدمية عبر تصريحات متناقضة وتبادل للاتهامات بين الجهات السياسية، بدل تقديم حلول عملية أو الاعتراف بالتقصير. وفي أحيان كثيرة، يتحول النقاش حول معاناة الناس إلى مادة للسخرية أو التراشق الإعلامي، وكأن الأزمة حدث عابر لا يمس حياة الملايين.

هذا الاستخفاف بعقول المواطنين، من خلال وعود متكررة لا تُنفَّذ، لا يدل فقط على قلة الكفاءة، بل يعكس أيضا انفصال بعض السياسيين عن الواقع الذي يعيشه الشعب يوميًا، حيث تدار الأزمات بالتسويف أو التأجيل بدل المعالجة الجادة القائمة على التخطيط والمحاسبة. إن أخطر ما في تفاهة بعض السياسيين هو أنها تُطبِّع الفشل وتجعله أمرًا عاديا، وتُضعف ثقة الشباب بالعمل السياسي، ما يدفعهم إما إلى العزوف عن المشاركة أو إلى الشعور باليأس. وعلى الرغم من أن العراق يمتلك طاقات بشرية هائلة وخبرات علمية كبيرة في الداخل والخارج، إلا أنه بحاجة إلى سياسيين يتحلّون بالمسؤولية، والجدية، واحترام عقول الناس. فالنقد هنا ليس هدفه الإساءة، بل الدعوة إلى إصلاح حقيقي يضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار.

في الختام، إن مواجهة أزمة التفاهة سياسيا تتطلب وعيا مجتمعيا، وإعلامًا مسؤولًا لا يروّج للسطحية، وتشجيعًا للخطاب العاقل، إضافة إلى دعم الكفاءات الحقيقية. فالمجتمعات لا تُبنى بالشعارات، بل بالفكر، والعمل، وتحمل المسؤولية، والسياسة الجادة هي الأساس لأي نهضة حقيقية

 


مشاهدات 55
الكاتب نبراس المعموري
أضيف 2025/12/17 - 3:06 PM
آخر تحديث 2025/12/18 - 7:55 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 781 الشهر 13644 الكلي 12997549
الوقت الآن
الخميس 2025/12/18 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير