قرأت كتاباً لـ (نبأ الجميل )
محمد خضير الانباري
تصفحتْ كتابا أهدتني إياهُ الأستاذةِ (نبأُ كاظمْ شاكرٍ جميلٍ ) ، التدريسيةَ في كليةِ العلومِ السياسيةِ في الجامعةِ المستنصرية، والموسومَ ( ما بعدَ العلمانيةِ في الفكرِ السياسيِ الغربيِ – يورغنْ هابرماسْ أنموذجا ) - الفيلسوفَ وعالمَ الاجتماعِ الألماني، الذي، يعدّ منْ أبرزِ مفكري العصرِ الحديث، وواحدا منْ أهمِ ممثلي المدرسةِ النقدية، واحد الفلاسفةِ المعاصرينَ في الفلسفةِ الاجتماعيةِ والسياسية، وتدرسَ أعمالهُ في معظمِ الجامعاتِ حولَ العالم.
ممثلو المدرسة
يتكونَ المؤلف؛ منْ ثلاثةِ فصول ومقدمة وخاتمة، ففي فصلهِ الأول، تناول، الإطارُ النظريُ لما بعدَ العلمانيةِ ليعدّ مدخلاً له، أما فصلهُ الثاني، فتناول، أهمَ المرتكزاتِ الفكريةِ لما بعدَ العلمانيةِ المتمثلةِ في التسامحِ والتعايش، في حين تناول فصلهُ الثالث، ، أنموذجُ كتابها الفيلسوف (يورغنْ هابرماسْ) ، ورؤيتهُ لمجتمعاتِ ما بعدَ العلمانية.
تتمثلَ العلمانية، كما، عرضتها المؤلفة، بأنها، مفهومٌ سياسيٌ اجتماعي، نشأَ أبانَ عصورَ النهضةِ والتنويرِ في أوربا، عارضَ ظاهرةَ سيطرةِ الكنيسةِ على الدولة، وهيمنتها على المجتمعِ وتنظيمها على أساسِ الانتماءاتِ الدينيةِ والطائفية، وفصلُ الدينِ عنْ الدولةِ والاستقلالِ التامِ في التنظيمِ الدنيويِ وعدمِ الخلطِ بينَهما ..
أما مصطلح (ما بعد العلمانية)، فتعني ، أن العنصر العلماني قد بلغ المنتهى، وأن الحضارة الغربية والعالم الأوربي، يدخل في مرحلة جديدة ، لتجاوز العلمانية ، وآن الأوان، لبروز فكر ورؤيا جديدة بديلاً عنها ، لتنتشل الذوات الإنسانية من الضياع، وتحد من العنف والحرب على القوى الاجتماعية .
لقدْ انغمستْ في قراءتهِ لساعاتِ عدة، إلى أنَ فرغتْ منهُ تماما، ولعلَ قيمةَ هذا العنوانِ بالنسبةِ لي، تكمنَ في ارتباطهِ الوثيق، بما أتناولهُ في كتاباتي المتنوعةِ حولَ بعضِ الأسبابِ التي تعيقُ تقدمَ بعضِ الدول، نتيجةُ التدينِ السياسيِ غيرَ الإنساني، الذي يستغلُ لتغليفِ نفوذِ رجالِ الدين، منْ الذينَ يمتلكونَ إمبراطورياتٌ اقتصاديةٌ واسعة، وتخشاهمْ الحكوماتُ خوفا منْ تأجيجِ الشارعِ ضدهم، وهوَ مشهدٌ عرفتهُ الأممُ عبرَ التاريخ، وتجسدَ بوضوحِ في التجربةِ الأوروبيةِ تحتَ هيمنةِ الكنيسةِ وسيطرتها على الشؤونِ الدنيوية، التي تكررتْ صورها في بعضِ المجتمعاتِ الإسلامية، حيثُ جرى توظيفُ الدينِ لتحقيقِ أغراضٍ دنيويةٍ على حسابِ القيمِ الأخلاقيةِ والمبادئِ التي جاءَ بها الدينُ الإسلاميُ الحنيف، وجعلتْ منْ الدينِ ومفاهيمهِ في المرتبةِ الثانيةِ لمنهاجها الفكري، بعدُ النشاطات الاقتصاديةَ الكبيرة، وجوانبها الإيجابيةِ والرائعةِ في إيجادِ المئاتِ منْ فرصِ العملِ للعاطلينَ عنْ العمل، وتوفيرَ أفضلِ المستشفياتِ والعلاجاتِ الطبية للمرضى، والمساهمةُ في تطويرِ بعضِ الجوانبِ الصناعيةِ والزراعية. بعدُ أنْ عجزتْ بعضَ الحكوماتِ الفاسدةِ التي تتفاخرُ بعلمانيتها ومدنيتها، أنْ توفرَ جزءا يسيرا منْ مسؤوليتها التنفيذيةِ أمامَ شعوبها. إلا ، هنالك من يرى في ابتعادها عن عملها الديني والتوجه الى العمل الدنيوي.
ساحة السياسة
بعدُ التعمقِ أكثرَ فأكثرَ في صفحات المؤلف، فقد وجدته؛ يبحث، في أحدِ أهمِ الموضوعاتِ التي تطغى على الساحةِ السياسية: العلاقةُ المتوترةُ بينَ العلمانيةِ والدين، والصراعُ حولَ أيهما أصلحُ لقيادةِ الدولِ والشعوب، والحلولُ التوفيقيةُ بينهما وفقِ مصطلحٍ (ما بعدَ العلمانية).
لقدْ ابدعت المؤلفة؛ في المزجِ بينَ المفهومِ العلماني، ومواقفُ بعضِ المتشددينَ في الدفاعِ عنه، وبينَ الرؤيةَ الدينية، وفقَ الآراءِ التي تناولتها، لبعض الكتابِ وذوي الفكر الفلسفي والاجتماعي، حيث، يرى البعض، أنها تتعارضُ معَ مفهومِ العلمانية، مرورا بالفكرِ الحديثِ الساعي إلى إعادةِ بناءِ هذهِ العلاقةِ بينَ الفكرينِ بعدَ قرونِ منْ « الطلاقِ السياسيِ « الذي سببهُ استبدادَ المؤسساتِ الدينيةِ في أوروبا، وتسخيرها الدينُ لخدمةِ مصالحها. . . ومحصلةُ ذلكَ كلهُ اتساعُ الفجوةِ بينَ المتدينينَ والعلمانيين، وإلقاءُ اللومِ على الدينِ بوصفهِ سببَ التخلف، نتيجةُ الاتباعِ الأعمى لبعضِ القادةِ الدينيين.
وقدْ خلصتْ منْ مفهومِ « ما بعدَ العلمانيةِ « إلى أنَ ثمةَ مؤشراتٍ على عودةِ الدينِ إلى المجتمعاتِ الغربية، ولوْ على مستوى الجانبِ الفكريِ والأخلاقي، في ظلِ الانفلاتِ القيميِ الذي يصمُ بعضُ مظاهرِ الحياةِ العلمانية،- خصوصا- لدى الأجيالِ الجديدة، ومنْ أبرزِ أمثلتهِ الزواجَ المثلي.
تؤكدَ المؤلفة، استنادا إلى نموذجِ ( يورغنْ هابرماس)، أنَ الدولةَ العلمانيةَ الحديثةَ تسعى إلى تحقيقِ اندماجٍ سياسيٍ يسمحُ بتعايشِ المتدينينَ وغيرِ المتدينينَ وفقَ مبادئِ الحريةِ والتسامح.
إنَ قراءةً مثلٍ هذهِ الكتبِ، تنمي الذاكرةُ وتثري الثقافة، وتفتحَ آفاقا جديدةً للاطلاعِ على أفكارِ واتجاهاتِ حديثةٍ أوْ مراجعةٍ لذاتها، مما يعززُ التوازنُ بينَ الرؤى المتباينة، ويضيقَ مساحةَ الانقسامِ بينَ الدينِ والعلمانية.
وختمتْ مؤلفةً الكتاب، برؤيتها، التي ترى فيها أنَ مفهومَ( ما بعد العلمانية)، ما يزالُ مفهوما معاصرا لمْ يكتملْ نضجهُ بعد، وأنهُ يحتاجُ إلى مزيدٍ منْ البحثِ والزمنِ ليفهمَ بعمق، معَ ضرورةِ تحديدِ المؤشراتِ أوْ السماتِ التي يمكنُ اعتبارها ملامحَ لمرحلةِ ما بعدَ العلمانية، ثمَ تتبعها وتجريبها للتحققِ منْ صحتها.أما نحنُ فنوجه خطابنا إلى مجتمعنا قائلين: لوْ أننا تمسكنا بديننا الحنيف، بفهمٍ متجددٍ غيرِ خاضعٍ للتسييس، وهوَ الدينُ الذي وضعَ الأسسَ الشاملةَ لتنظيمِ الحياة، لبلغنا مكانةً رفيعةً بينَ الأمم. « ما أروعَ أنْ يستمتعَ المرءُ بقراءةِ كتابٍ مميزٍ في أمسيةٍ خريفيةٍ هادئة، خاصةً حينَ يكونُ لمؤلفةٍ أكاديمية شابةٍ، تقدمُ رؤيةً حديثةً وتحليلاً معمقا لموضوعٍ جديدٍ لمْ يطرحْ في ساحتنا الوطنيةِ بهذا الوضوحِ. وبذلكَ تستحقُ كاتبتنا المبدعةَ ، كلَ التقديرِ والاحترامِ على هذا العملِ القيمَ في محتواه، البديعُ رغمَ حداثةِ سنها.
ونأملُ بمزيدٍ منْ الأعمالِ التي تواكبُ روحَ المرحلةِ في عصرنا الحديث.