السلامة.. ثقافة وليست إجراءات
فارس كامل حسن
إن الحريق المفجع الذي شهده مركز التسوّق في الكوت ليس حادثًا معزولًا، بل حلقة في سلسلة من الكوارث التي تتكرر بسبب غياب الوعي بثقافة السلامة، والاكتفاء بالشكل دون الجوهر، وبالإجراءات المؤقتة دون ترسيخ السلوك الوقائي في حياة الناس ومؤسسات الدولة.
وانها ومع الأسف الشديد لن تكون الأخيرة ما لم ندرك أن السلامة ليست مجرد تعليمات تُعلّق على الجدران، بل هي ثقافة مجتمعية وسلوك يومي.إن السلامة المهنية لا تبدأ من أجهزة الإطفاء ولا تنتهي بوجود كاشف دخان. إنها تبدأ من القناعة الراسخة لدى كل فرد بأن الحفاظ على الحياة واجب لا يُؤجل. كم من سائق دراجة نارية نراه يوميًا يعرض نفسه للخطر دون ارتداء خوذة واقية؟ كم من سائق مركبة لا يربط حزام الأمان إلا حين يلوّح بشبح الغرامة؟ وكم من عامل يُباشر عمله وسط أخطار حقيقية دون أبسط أدوات الحماية؟ الأمثلة أكثر من أن تُحصى، والمشكلة ليست في الأدوات بل في الذهنية.ويبقى السؤال الجوهري الذي يجب أن نطرحه اليوم: لو لم يقع حريق الكوت، هل كنّا سندعم الموظف الذي يعطّل افتتاح مشروع اقتصادي لأنه أصرّ على وجود مطفأة حريق؟ إن التجربة تشير إلى أن المجتمع – في كثير من الأحيان – يقف موقفًا سلبيًا من تطبيق القانون، ويصِف من يتمسّك به بأنه “متشدد”، و”غير متعاون”، و”يعقّد الأمور”، بينما يُكافئ من يُهمل تلك القوانين باعتباره “مرنًا”، و”قريبًا من الناس”، و”يساعد الآخرين”. في مثل هذا المناخ الفكري، تصبح الوقاية من الكوارث أمرًا مستبعدًا، كمن يرجو الثمر من أرضٍ بور.من هنا، لا بد أن يتحول الوعي المجتمعي إلى الدرع الحقيقي للسلامة.
على وليّ الأمر أن يرفض تسجيل أبنائه في مدرسة لا تتوفر فيها شروط السلامة الأساسية. وعلى الأسرة أن ترفض ارتياد المراكز التجارية والمرافق العامة التي لا تبدي التزامًا واضحًا بإجراءات الحماية. وعلى الطلبة، والموظفين، وكل مرتادي الأماكن العامة أن يُطالبوا بتطبيق المعايير الوقائية دون تهاون أو مجاملة.
لقد أثبتت التجربة أن الاعتماد على حملات التفتيش الحكومية وحدها لا يكفي، فهي تنشط بعد وقوع الكارثة، ثم تخبو تدريجيًا حتى تُنسى، وكأن الأرواح التي فُقدت كانت حدثًا عابرًا. إن بناء ثقافة السلامة مسؤولية الجميع، تبدأ من الفرد وتنتهي عند المؤسسة، وتمتد إلى كل زاوية في المجتمع. فإما أن نؤمن بأن السلامة قيمة يومية لا تقبل التأجيل، أو نظل ننتظر الفاجعة التالية.