من مخطوطتي السردية.. السيرة الذاتية لطلال الغوار
النهر
أوّل مشاهدة لي , في طفولتي , كانت النهر. رأيته يغذ جريانه بقوة نحو البعيد , ودونما توقف . أدهشني ذلك المنظر, لتنشا لي علاقة روحيّة معه ، مع موجاته , وشاطئه الحصّوي , وجزره التي تتوسط النهر , وشجيرات الطرفة المتباعدة على ضفافه. ففي الفجر كثيراً ما كنت أسمع هدير جريانه , ليبعث في نفسي شيئاً من الفرح . وكأني أرى بهجة الحياة من خلاله ، وعلى الرغم من هذه العلاقة الحميمية مع النهر, فانه ترك أثراً حزيناً في نفسي , ما زلت أتذكره إلى يومنا هذا.
ففي أحد أيام الصيف الحارة . كنّا نشكّل مجموعةً , نحن الصغار, (بناتاً وولداناً ) , ونمضي إلي النهر في الظهيرة كي نستحم عند ضفافه هرباً من الحرِّ, من دون أن نمضي إلى العمق لأننا لم نتعلم السباحة بعد . ونحن في دواّمة الصياح المعبر عن بهجتنا , والركض على الضفاف , لنعود نتراشق في ما بيننا بالماء , والبعض الآخر يعوم عند الضفاف , لكنّ النهر وفي غفلةٍ منّا , سرق الصبيّة ( ليلى) , وطواها بموجاته ,ليلى التي كانت اكبر منّا سنّاً. وحين أحسسنا أن ليلى لم تكن بيننا , صرخنا وناديناها مراراً باسمها, لكن النهر كان عنيداً, لم يلتفت لنداءاتنا وصياحنا.
عدنا إلى بيوتنا من دون ليلى .
عرزال فوق الشجرة
أذكر شجرة التوت القريبة من البيت , كثيفة الأغصان والأوراق , تحسبها غابة صغيرة محلّقة تحتضن فوضى اصطفاق أجنحة الطيور , وأصواتها المختلفة , وكثيراً ما كنّا نفيء بظلالها مبتعدين عن حرارة الشمس , عند الظهيرة . مرّة دفعني هاجس أن أبني “ عرزالاً “ صغيراً فوق الشجرة , ففعلت ذلك بربط الأغصان بعضها ببعض , وجعلتها مقوّسة , بحيث تشكّل قبّة من أغصانها وأوراقها الكثيفة , وجعلت لها فتحة مستطيلة تواجه الفضاء , وتطلُّ على الدروب والساقية التي تجري تحتها , وعلى مقربة من الطيور التي تحطُّ على أغصانها , وقد تمادى خيالي بأن أتآخى مع الطيور وأقيم علاقة معها , وتتحوّل إلى طيور أليفة . ولم يمض يومان على إكمال “ العرزال “ حتى جئت عند الظهيرة وحدي , وتسلّقت الشجرة ثم اختبأت فيه , غير أنَّ الطيور اكتشفت وجودي , فجعلتها تستغرب المكان , وينتابها الفزع , لتنفر منه وترفض أن تحطَّ على أغصان الشجرة , فترتد هاربة في الفضاء , ولم تكتشف الطيور أمري وحدها فقط , فقد جاء أحد أصدقائي وهو “ حاجم خميس” واكتشف أمري حين جلس تحت الشجرة ينتظرني , لأننا تعودنا , في كثير من الأيام , أن نجلس تحتها , ونتسلقها أحياناً , لنتخذ مكاناً فوق أحد غصونها القوية والغليظة , وحينما لم يرني , أخذ يتلفّت يمنة ويسرة , وعندما حاول النهوض , دُهش وأنتابه الفزع , ففرَّ هارباً , عندما غيرت من نبرة صوتي , وناديته باسمه .
وصول الخبر
ولكني استدركت الأمر سريعاً , وكررت ندائي بصوتي الحقيقي , فألتفت نحوي مستغرباً عن ما فعلته , وعندما نزلت من الشجرة , كشفت له سرَّ رغبتي , لكنه لم يكن أميناً على ما ساررته , فأشاع ذلك بين أقراننا حتّى وصل الخبر إلى والدي الذي سألني عما فعلت , لكن ابتسامته التي كانت تغطي وجهه , أزاحت عنّي الخوف والخجل , وحين أجبته بابتسامتي , قال : وكأنه يتحدّث مع نفسه : هذا خيالك إلى اين سيأخذك ؟!