المنبر الحسيني .. أمانة الكلمة ومحراب الوعي
جعفر محيي الدين
في موسم محرم تتجه أنظار الملايين من أتباع أهل البيت في العراق و العالم نحو المنبر الحسيني ، بإعتباره المنصة الخالدة التي حافظت على حرارة دم الحسين (عليه السلام) و رسخت قيم الفداء و العدل و الصبر في الوجدان الشيعي منذ أكثر من ألف وأربعمائة عاماً . المنبر الحسيني ليس مجرد وسيلة خطاب ديني ، بل يُعد إمتداداً روحياً و عقائدياً لمنبر رسول الله (صلى الله عليه و آله) و منبر أمير المؤمنين في جامع الكوفة ، و منبر السيدة زينب في قصر يزيد ، إنه المحطة التي تعبر من خلالها معاني النبوة و الإمامة و النهضة الحسينية إلى قلوب الأجيال ، جيلاً بعد جيلالخطيب الذي يعتلي المنبر لا يعتلي منصباً تشريفياً ، بل يحمل أمانة عظيمة تُحمّله ذمة الحسين و ضمير رسالته كل لفظ ينطقه ، و كل قضية يطرحها تمرّ من بوابة الحسين أولاً ، ثم إلى مسامع الناس لهذا تبقى وظيفة المنبر مرتبطة بالإخلاص قبل الأداء .. و بالنية قبل البلاغة .
رجال المنبر الحقيقيون هم الذين يُحيون القلوب لا الأصوات ، و يزرعون الوعي لا التصفيق و ينقلون الحزن النبيل لا الأنفعال الموقّت ، و منبر الحسين لا يحتاج إلى التهويل أو الإضافة ، لأن في كربلاء من العمق و العظمة ما يكفي لتهزّ جبال الغفلة إذا أُديَ كما ينبغي . ومن جانبٍ آخر تقع على جمهور المنبر مسؤولية لا تقل أهمية ، و هي صون قدسية المجلس و أحترام رمزية المنبر ، و عدم التهاون في نقل كل ما يُقال دون تثبّت .
فالمجلس الحسيني ليس مساحة ترفيه ديني بل حضرة معنوية ، تستوجب الخشوع و الإصغاء و التأمل قبل التفاعل و المشاركة .كما يدعو وجهاء و فضلاء و محبّو المنبر في عموم المدن ، إلى ضبط النشر العشوائي للمحتوى الحسيني ، خصوصاً في وسائل التواصل لما لذلك من أثر في تشويه بعض المقولات غير الدقيقة ، و التي قد تُنتزع من سياقها أو تُنسب لأهل البيت ما لم يقولوه ، مما يُعد تقليلًا عن (غير قصد) من هيبة المنبر و حرمة الذكرى وصدق الخطاب .
إن الحفاظ على المنبر
الحسيني هو حفاظ على هوية الطائفة ، و ذاكرة كربلاء و بوصلة الحق في زمن الفتن ، وفي هذا الإطار يتجدّد النداء أن لا يُترك المنبر إلا لأهله ، ولا يُعلو صوته إلا من بايع الحسين بقلبه و لسانه و أن يُعاد الإعتبار للمقومات ، التي أسّس عليها الحسين نهضته الصدق والوضوح و الإباء و التقوى . فإن المنبر ليس منصباً بل رسالة و ليس ملكاً لأحد بل أمانة بين أيدي الجــميع ، و إن من يحفظه اليوم إنما يشارك في حفظ صدى عاشوراء إلى يوم الدين .