عبد الحسين شعبان في كتاب دين العقل و فقه الواقع
مغامرة التساؤل ورفعة الروح والقيمة الإنسانية
إلهام كلاب
بقدر ما إجتذبني سريعا" العنوان الثاقب لهذا الكتاب "دين العقل و فقه الواقع" في تقاطع عباراته و تصادمها و تفاعلها و التوق إلى آفاق تلاقيها .
بقدر ما إستغرقتني طويلا" قراءة محتواه الغزير،المتنوع،المتشعب،المفاجئ والفريد.
ما يثير إعجاب القارئ و تقديره أولا"،هو إستهلال حوار ديني فسيح الضفاف بإطار منهجي و مفهومي نفتقده في العديد من المؤلفات العربية في هذا المجال،و هو ما يتميز به د.شعبان في كل ما صاغه من مؤلفات.في هذا الكتاب يتقاطع صوتان جليلان يتشاركا أو يتبادلا التساؤل و المعرفة،الإيمان والحدس،القلق و اليقين،النقد والتعجب،و حتى الفكاهة،حصيلة إحتكاك فكري سابق،و إلفة إنسانية عريقة،و نضج في الكلمة و عمق في الإصغاء. هو كتاب يجتاز كل المسافات و التساؤلات الدينية والفكرية و الإجتماعية والسياسية،برصانة مفكر إنحنى خصب سنابله على الآخرين،و بخفة فارس بارع يجتاز تلابيب الفكر الإنساني و يخترق ثوابته بالمعرفة والسماحة،بالقول و بالإصغاء.لذا ينساب الكتاب بسلاسة بين حواجز وأسلاك شائكة إنتصبت بين العقل والدين في مقاربة هادفة للمقدس والشريعة و القانون و الطائفة والعنف و الفقه و المرأة و العصمة وغيرها مما لا يختصر في هذه الدقائق القليلة المتاحة لهذه المداخلة.
في متابعة النص من داخل ،أي من منهجية و إيقاع و تقنيات الحوار ،نجد الكاتب يصغي إلى السيد أحمد حسني البغدادي بإنصات و إحترام، و يتوجه إليه بنقاش هادف وصادق،يحاول من خلاله صقل الفكرة كي تتجوهر و تفيض إيحاء ،دون أن يفارق ذهنه السؤال الأساسي الذي إختطه لنفسه في مؤلفاته الغزيرة في مواجهة النص الديني بتساؤل رحب و هدف إصلاحي و رؤية معاصرة.
لقد كرسى د.شعبان حياته و فكره للبحث عن الحقيقة و لتكريس اللقاء الإنساني مهما تنوعت الآفاق في جولات فكرية رصينة وسيعة الأبعاد،بين الحوار و الاجتهاد والتعايش و الحرية و الدين والماركسية و الحضارة و المواطنة و السلطة و الهويات ،لذا شكلت كتاباته "قاموس الواقع العربي المعاصر" المتسائل المتحرك،قاموس يجمع و لا يبعثر،يثير التفكير و يفكك ضيق الهويات. يتميز هذا النص خاصة" بالدينامية (في الحوار المتنامي) بالشمولية (في المعرفة و عمق الثقافة) ،بالصدق (في القول و المواجهة )،كما بمحاولات التخطي المتواصلة في مواجهة أسوار التقاليد و الشرائع و بإحترام الإختلاف الذي غذى شعلة الحوار الحر و بغزارة المراجع المتنوعة. الدقائق ظالمة و لكن دعوني أتوقف سريعا" عند نقطتين: الدينامية ومحاولات التخطي . هي دينامية الفكر و اليقظة الذهنية بين شيخ جليل فقيه عالم و مرجعي ،و مفكر علماني عريق،فسيح العقل ،عميق المعرفة،غزير الثقافة،رشيق العبارة،حداثي معاصر،في مسار حواري متدفق،متعرج أو دقيق في أويقات إستعادته و مواقع تردده و تحرره.و هي محاولات التخطي للخلفيات المتناقضة في خريطة التدين ،و لبعض مظاهر الدين التي لا تدل عليه،كإختزاله إلى متناقضات،و إستغلاله للعنف و الحروب ،و إستدعاء العصبيات التي تلاقي أرضا" خصبة في الشرائع الدينية. يسير الكاتب ببراعة و معرفة و دقة و إنفتاح على هذه الأرض الملغمة بالتحريم و التجهيل و التكفير،مبشرا" بدين المعرفة و العقل و الإنسانية مقابل دين الجهل و الخرافة و العصبيات .و في إحساسه العميق بالمسؤولية التاريخية يدعو إلى السماحة لتقبل الإختلاف و قراءة التراث بعين معاصرة هدفها الإنسان أولا".
يستوقفني في محاولات التخطي موضوع المناظرة 14بعنوانها الجريء "هل المرأة عورة و ناقصة عقل و دين"؟ و هو موضوع حساس و شائك في ظل فقه ذكوري و تقاليد إجتماعية متخلفة و إستعلائية،يواجه الشيخ البغدادي الحديث عن دونية النساء بأن الإنسان مفردة حياتية ترمز إل الرجل و المرأة و الكرامة الإنسانية الواحدة،و لكن الصدام الكبير أو التحالف التاريخي الظالم هو بين قوانين أحوال شخصية جائرة و أحكام دينية ظالمة...
قد يجد العديد من القضايا المذكورة في هذا الكتاب حلولا" ممكنة و تبقى العقبة الكبرى هنا،في قيود تكبل عقول الرجال قبل أن تكبل مصائر النساء في الدين و الدولة. أخيرا"،في عالم عربي اليوم تتقهقر فيه المعرفة و يتكاسل العقل و تنمو وتبرعم العصبيات،يأتي هذا الكتاب ليعيد إلى العقل مغامرة التساؤل وللإيمان رفعة الروح و قيمة الإنسان.
{ رئيسة جامعة اللّاعنف وحقوق الإنسان في لبنان