الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
عمارة متغيّرة لمجتمع متغيّر

بواسطة azzaman

عمارة متغيّرة لمجتمع متغيّر

هوشيار قادر رسول

 

تعد مسألتا التعايش والتواصل الحضاري بين أفراد المجتمعات والديانات والثقافات المختلفة حاجتين إنسانيتين لهما أبعاد اجتماعية ومعرفية ٌ تتلاقى فيها الافكار البناءة لتنمية الحياة بعيداً عن نزاعات الاستحواذ والاستفراد، ومن ثم فإن التعايش والتواصل الحضاري، لا يؤسسان بالمثل الأخلاقية والإنسانية فحسب، بل بالسعي الحثيث من قبل الجميع نحو بناء الحاضر المعيش، والمستقبل المشترك، وعلى قاعدة احترام التعدد الذي يترجمه النظام الاجتماعي العالمي الذي يكفل حق المساواة بين أفراد المجتمعات بناءً على أسس المواطنة العالمية المشتركة. ويعد التعايش والتواصل الحضاري مرحلة ً متقدمة تبلغها المجتمعات التي تؤمن بحقيقة التنًوع ، وتسعى إلى تطوير المساحات المشتركة بين مختلف أفرادها، ووفقا  لهذا الاعتقاد والخطوات العملية يمكن أن تتحول مسألتا التعايش والتواصل الحضاري من الحيز الأخلاقي النظري إلى حيثيات وجودية، وممارسات اجتماعية عملية.

تعميم ثقافة

وفي الوقت الراهن و في ظل ما يشهده العالم من حروب و صراعات تزيد من حالة التناحر والانقسامات بين المجتمعات تغدو الحاجة ملحة الى تعميم ثقافة التعايش والتسامح وتأصيلها داخل المجتمعات وبين بعضها بعضا، كما أن تحويل هذه الثقافة والقيم إلى سلوك اجتماعي لا يقل أهمية عن تعميم هذه الثقافة وتأصيلها، إذ أن التعامل معها بوصفها كياناً فكرياً مجرداً ومنفصلاً عن السلوك الإنساني الواقعي لن يكون ذا فائدة.

في النظرية السياسية، تكتسب التعددية أهمية خاصة مع نمو المجتمعات في الحجم والتعقيد. فالتنوع المتزايد للسكان ــ بما في ذلك الخلفيات الثقافية المختلفة، والفئات العمرية، والأديان، والأعراق، والتوزيعات الاقتصادية ــ يسهم في تعدد جوانب الفكر المجتمعي. ويؤدي هذا التعقيد إلى تعقيد توزيع السلطة، حيث يشكل الأفراد تحالفات وروابط إبداعية بدلاً من الالتزام بسلطة واحدة.

يرى (يورغن هابرماس) من خلال نظريته في (الفعل التواصلي) أن تحديد ملامح التعايش السلمي والاعتراف بالآخر يعتمد على العقلانية التواصلية التي تحكمها أخلاقيات المناقشة والحوار، التي ستؤدي إلى إرساء الأسس العملية لممارسة الديمقراطية التواصلية، التي تشكل نقطة الانطلاق الأساسية لتجسيد مفهوم التعايش مع الآخر والاعتراف به. وهذا التواصل هو علاقة حرة متوازية بين مجموعات متعددة ومتباينة5.

دور العمارة في استجابة لمتطلبات هذا المجتمع المتغير في التعايش والتعددية، وكيفية تقبل الآخر، والتكيف، واحترام الاختلاف بين الثقافات والشعوب، والاحتفاء بهذا الاختلاف وتسخيره في خدمة المجتمع، خاصة في ظل الظروف التي يشهدها العالم اليوم، التي تدفع إلى مزيد من موجات الهجرة والنزوح للأفراد والمجتمعات.

العمارة إنتاج إنساني معبر عن حاجات إنسانية، وهذا ما نراه واضحاً عند الفيلسوف مارتن هيديكر عندما يقول إن الحاجة للسكنTo Dwell   متحققة في فعل السكن وليس في المسكن نفسه. فالعمارة لا تكتسب قيمتها من مواد البناء أو من الأرقام التي تمثل الأبعاد، بل من تجسيدها لكينونة الإنسان.

يطرح Robert Stern   مفهوم كون العمارة عبارة عن نص اجتماعي (فالعمارة ليست مجرد تلبية لحاجات فيزيائية بل هناك حالة أشمل من ذلك هذه الحالة تأتي من الظروف المحيطة.. من طبيعة السياق الذي يوجد فيه المبنى.. من الحضارة Culture فالعمارة أينما وجدت ولأي سبب اوجدت يجب أن تتماشي مع معطيات العصر.. مع طبيعة البشر فالمكان وحضارته وتاريخه تمثل النص الدي تكتبه العمارة بالإضافة إلى المتطلبات والمفاهيم والأفكار للمستعمل4.

يشير فروّخ درخشاني، مدير جائزة الآغا خان للعمارة، في افتتاحية الكتاب الذي صدر مؤخراً عن دار النشر الألمانية أرك تانجل (ARCHI TANGLE) بعنوان «عمارة التعايش…بناء التعددية»، الذي قامت بتحريره المعمارية أزرا أكشاميا، إلى جانب عدد من المعماريين والخبراء الرائدين في مجال العمارة والفلسفة في العالم. قائلًا: (مع تعدد الثقافات والأعراق على نحو متزايد في المدن الكبيرة، بدأ ظهور تناقضات صارخة في التعليم والثروة والرفاهية. بالتالي، فإن التحدي أصبح يكمن في تقدير التنوع والتوسط بين انقساماته1).

محاور رئيسية

ولفهم هذه المعادلة الصعبة في تغيير لبنية مجتمعاتنا اليوم، تبرز دور العمارة والهندسة المعمارية في دعم وتعزيز مفهوم التعايش والتعددية، يركز الكتاب في صفحاته بشكل خاص على ثلاثة محاور رئيسة، هي: دور العمارة في الحفاظ على الهوية العرقية والدينية وخاصة في دول الاغتراب أو التجمعات الحضرية التي تتميز بتنوع سكانها وتعدد مشاربهم العرقية وانتماءاتهم الدينية؛ وقدرة العمارة على دعم الديمقراطيات وتسهيل دمج الأقليات في الفضاء العام؛ وأخيراً دور العمارة في تحقيق التقارب بين الثقافات واستكشاف جمالياتها ودلالاتها الثقافية في عملية البناء3

التعددية في العمارة يمكن أن ينظر إلى جوهرها، باعتبارها قوة أساسية تدفع الرغبة في التجديد والتنوع والاضطرابات داخل النسيج الاجتماعي.

عمارة الحداثة فلسفة بحثت عن تفسير الوجود والنسق من خلال اعطاء تعبيرية روح العصر تطورت تدريجياً خلال المدة من 1850 حتى 1970 التي حدث خلالها تغييرات تكنولوجية هائلة. تركز نظرة الحداثة على التقليد الهندسي فتوصف بكونها تقنية Technical حيث يحاول المعماري- المهندس الوصول إلى هيكلية الكمال Perfection  الذي هو نوع من القانون الكوني، يؤكد على أفكار الواحدية، اللزومية والمرونة بتفاصيلها الكاملة2.

تؤكد نظرة الحداثة في العمارة على فكرة الخلود حيث يشير (ميز فان در روه) إلى أن الإنسان لا يستطيع أن يكون عمارة جديدة صباح كل اثنين في حين أن النظرة الجديدة للكون الممدد والقافز إلى مستويات نسقية جديدة بشكل دائم يمكن أن تؤدي إلى ظهور عمارة جديدة صباح كل اثنين وذلك من خلال الحاجة المستمرة إلى تغيير اللغة السائدة وازاحتها بشكل مفاجئ والانتقال إلى مستوى آخر بشكل دائم تؤدي إلى ظهور استطيقات جديدة الانكشاف نتيجة لغات ومفردات جديدة وتشكيلات جديدة.

العمارة وبعد تخطیها (فکراً وممارسة) مرحلة الحداثة ودخلت عصراً جديداً من التطورات التكنولوجية والتناقصات الفكرية.. عصر ما بعد الحداثوي، بدأ المهندسون المعماريون في دمج مجموعة من الأساليب والتوجهات، الأمر الذي أدى في كثير من الأحيان إلى إخراج الاصول المثالية الأصلية عن مسارها. وقد أدى هذا إلى ظهور عمارة تحتفي بالرأسمالية والسطحية، التي تجسدت في شخصيات مثل مايكل جريفز وروبرت فينتوري.

في أوائل ومنتصف تسعينيات القرن العشرين، تناول المنظر الاجتماعي السياسي (روبرت مانجيبيرا أونجر) مجتمع العمارة العالمي بمقالين مختلفين مشحونين سياسياً. وفي هذين المقالين، أعلن أونجر أن المجتمع يتغير بطريقة لم تحدث من قبل وأن العمارة التي توفر ذلك يجب أن تتغير بشكل كبير أيضًا. وتحدى المهندسين المعماريين أن يأخذوا في الاعتبار أن التغيير في العمارة لا يحدث من خلال العمارة نفسها، بل في ذهن المهندس المعماري حيث يجب أن يصبح على دراية بحالة المجتمع المتغيرة من خلال التكنولوجيا؛ والتحولات من اقتصادات وكذلك الدولة والخصخصة إلى المصالح التعددية في الاقتصاد والسياسة٢.

يشير التعدد في العمارة إلى دمج وجهات نظر وأساليب وقيم متنوعة في عملية التصميم والبيئة المبنية. وهو يعترف بأنه لا يوجد أسلوب معماري أو أيديولوجية واحدة يمكنها معالجة تعقيدات المجتمع المعاصر بشكل مناسب.

آليات ترجمة التعددية في العمارة كثيرة و متنوعة: كتنوع الأساليب، التمثيل الثقافي (حيث يؤكد على أهمية عكس الهويات والتاريخ الثقافي المتنوع في المشاريع المعمارية)، إشراك المستخدم، الحلول التكيفية (حلول التصميم التكيفية والمرنة التي يمكنها الاستجابة للاحتياجات المتغيرة للمجتمع). وأخيراً الديناميكيات الاجتماعية (حيث تعترف بالأبعاد الاجتماعية والسياسية للعمارة، وتقر بأن المباني والمساحات يمكن أن تؤثر على التفاعلات الاجتماعية والعلاقات المجتمعية).

كثيرا ما تؤكد «عمارة التعايش» فكرة مفادها أن التصميم المعماري يجب أن يسهل التفاعل المتناغم بين المجتمعات والثقافات والأنظمة البيئية المتنوعة. ذلك من خلال:

الشمولية: تصميم مساحات ترحب بالسكان المتنوعين وتستوعبهم، وتعزز المساواة الاجتماعية وإمكانية الوصول.

الحساسية الثقافية: الاعتراف بالهويات والممارسات الثقافية لمختلف المجموعات واحترامها، ودمج التقاليد والسياقات المحلية في عملية التصميم.

الاستدامة: إعطاء الأولوية للإدارة البيئية من خلال النظر في التأثير البيئي للمباني والتصميمات الحضرية، بهدف الحد من الاضطراب في النظم البيئية الطبيعية.

الترابط: الاعتراف بالعلاقات بين البشر وبيئاتهم المبنية والطبيعة، وتعزيز الشعور بالمجتمع والمسؤولية المشتركة.

القدرة على التكيف: إنشاء مساحات مرنة يمكن أن تتطور مع احتياجات المجتمع المتغيرة والتحولات الديموغرافية، وضمان طول العمر والأهمية.

 الحوار: تشجيع التعاون بين المهندسين المعماريين والمجتمعات المحلية وأصحاب المصلحة لضمان سماع جميع الأصوات وأخذها في الاعتبار في عملية التصميم.

كما أشار جاكوبي إلى جدلية العمارة من خلال تزامن وتعايش المتناقضات، حيث يتشارك الماضي مع الحاضر في توليفة جديدة تنتج عمارة بمفهوم جديد الهوية المتحولة. والتوليف هو صيغة تضمن الحفاظ على سلسلة العلاقات المتبادلة بين الماضي والمستقبل من خلال الحاضر وتهدف إلى تحقيق الديمومة والتواصل مع التاريخ5.

وقد أشار فنتوري في كتابه (التعقيد والتناقض في العمارة) إلى فكرة التعايش بين المتضادات ضمناً من خلال تبني مبدأ تجميع الأشياء بدلاً من التعامل مع فكرة التمايز بينها. نشیر إلى أهمية وجود المتضادات في البيئة البصرية وفقاً لمبادئ التصميم. كما تتعامل التنظيمات مع السياق على مستوى الكل والجزء من خلال اعتماد قانون التناظر في خلق تركيب كلي للعمارة من مجموعة أجزاء وعناصر منفصلة حسب خصائص العناصر وموقعها وأعدادها وذلك لتحقيق التناغم والتكامل بين الأجزاء.

اما (التعايش) في سياقه الحضري هو مفهوم يعتمد على تقاطع الأنظمة الفكرية والفيزيائية في المدينة، ويتبعه سلسلة من التصورات المعرفية التي تكشف عن الواقع والقادرة على توليد نصوص دلالية متعددة الطبقات.

في كتاب رو وكويتر (مدينة الكولاج)، أشارا إلى مفهوم التعايش باعتباره استراتيجية لجمع وتشكيل المتناقضات مع بعضها البعض كملصقات لكل منها هويته التي تميزه عن مكون الكل (القديم والجديد - المحلي والعالمي - الخاص والعام) وفقًا لمبدأ التكافؤ الذي يسمح بقراءات متعددة، ومحاكاة المراجع الرمزية السابقة5.

بشكل عام، تسعى التصميم للتعايش إلى خلق بيئات تعزز الاحترام المتبادل والتفاهم والتعاون بين الكيانات الاجتماعية والثقافية والبيئية المختلفة. إما بناء التعددية يعني تصميم وتنظيم العمليات الاجتماعية التي تسمح بقبول الاختلاف من خلال فهم أفضل لصفات الاخر. وقدرة العمارة الجيدة على تجاوز سياسات الهوية الغير حقيقبة. وذلك بالتغلب على الاغتراب الاجتماعي من خلال تجارب حسية مرحة للفضاء والرموز والمواد والألوان والضوء التي تجذبنا كبشر.

هكذا، تعمل التعددية في العمارة على تعزيز نهج شامل ومتعدد الأوجه للتصميم يكرم التنوع، ويعزز الحوار، ويسعى إلى خلق مساحات تتوافق مع تعقيدات الحياة الحديثة. إنها تتحدى المهندسين المعماريين للتفكير بشكل نقدي حول مسؤولياتهم في عالم سريع التغير.

المصادر:

1_ التعايش والتواصل الحضاري... سلـسلـة الــــمــــواد التثقيفية للــبــرامــج، سلام للتواصل الحضاري ١٤٤٢ _ الریاض

2_ مهدي، صلاح .. )تغير العمارة و تطورها( 2000 اطروحة ماجستير غير منشورة جامعة بغداد، كلية الهندسة

3_ https://www.alfaisalmag.com/?p=22041

4_  Stern, Robert A.M.; The Postmodern Continuum 1994 ; Oxford University Press P.56

5-  Abdulzahra Ghusoon Najm   - Al Greiza, Abbas Ali Hamza  ' The Coexistence of Opposites in Contemporary Architecture' 2024  International Journal of Design & Nature and Ecodynamics Vol. 19, No. 2, April, 2024, pp. 553-561


مشاهدات 62
الكاتب هوشيار قادر رسول
أضيف 2024/10/21 - 3:45 PM
آخر تحديث 2024/10/22 - 6:32 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 113 الشهر 8934 الكلي 10038657
الوقت الآن
الثلاثاء 2024/10/22 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير