قراءة نقدية
دفنُ اللحظة واستدعاء الغد: سيمياء الذاكرة والسلطة في قصيدة رياض الدليمي
حسن غريب أحمد
تنهض قصيدة «أدفنُ الحاضرَ بشهوةِ الغد» على مفارقة مركزية تجمع بين فعل الدفن – بوصفه إلغاءً وقمعًا – وشهوة الغد – باعتبارها توقًا خلاصيًا.
هذه المفارقة لا تُدار في مستوى الزمن فحسب، بل تتغلغل في بنية الوعي الشعري، حيث يصبح الحاضر عبئًا وجوديًا يُراد التخلّص منه لا لأنه ماضٍ منتهٍ، بل لأنه حاضرٌ مأزوم، محاصر، وفاقد لشرعية الاستمرار.
يفتتح الدليمي نصّه بمجاز الذاكرة المجعّدة التي «لا تطاوع أسنان المشط»، في صورة لافتة تزاوج بين الحسّي والنفسي؛ فالذاكرة هنا جسدٌ يتمنّع على الترتيب، عصيّ على التهذيب، تمامًا كما هو التاريخ الشخصي والجمعي المتشابك بالعنف والخذلان.
حتى المرايا – رمز الصدق والمواجهة – «امتعضت من مرارتها»، وكأن الذات لم تعد قادرة على رؤية نفسها دون وسيط الألم.
الحاضر في النص ليس زمنًا حياديًا، بل كيانٌ محاصر «في جُب الاستفهام»، عاجز عن المصالحة بين متناقضاته: الزيتون (السلام/الأرض) وعسل التمر (الخصب/الذاكرة الشرقية). هذا العجز يفضي إلى قرار شعري حاسم: دفن الحاضر، لا بوصفه زمنًا، بل بوصفه منظومة قيم فاشلة.
تتعمّق القصيدة في تفكيك خطاب السلطة عبر مفردات الأرامل، الخواتم، الوصايا، والسرائر، حيث تتحوّل الرموز السلطوية إلى أدوات قهر لا تورّث إلا الفقد. إن «خاتم السلطة» المكتوب «بماء ساخن» يشي بوصية هشّة، آنية، سرعان ما تتبخّر، في مقابل ذاكرةٍ جمعيةٍ تُدفن قسرًا ولا تموت.
يُراكم الدليمي طاقة النص عبر إحالات أسطورية ودينية (هابيل وقابيل، الغراب، عيسى)، لكنه لا يوظفها للتزيين الثقافي، بل لفضح تكرار العنف عبر الأزمنة. الصراع هنا ليس حدثًا تاريخيًا، بل لعنة متجددة، حيث تتساوى الأزمنة «في مهب الريح»، ويغدو الزمن نفسه مجعّدًا، متطاحنًا.
أما الذروة الدلالية فتتجلى في المقطع الجغرافي/الهوياتي: نينوى، جمجمال، الحسكة.
هنا تتحوّل القصيدة إلى شهادة مكانية على قتل الشعر نفسه: «تُقتلُ القصائد، وتُرملُ القوافي، وتُسبى العنونة».
إنها كتابة واعية بمصير الكلمة في فضاء القمع، حيث الإيقاع يُخرم «برشاقة السيوف»، في صورة بليغة تجمع بين الجمال والعنف.
ورغم هذا السواد الكثيف، لا يخلو النص من بادرة وصية جمالية في خاتمته؛ فدعوة الأنثى/الآخر إلى جمع «قصاصة ورق من شغاف اللحظة» والاحتفاظ بـ«خواتيم القصيدة» تشير إلى إيمان خفي بأن الشعر – وإن قُتل – يترك بقايا قابلة للنجاة، وأن الذاكرة، مهما دُفنت، تملك حيلة البقاء.
خلاصة رؤيتي نقدية:
قصيدة رياض الدليمي نصّ كثيف، ينتمي إلى شعر الرؤيا لا الغنائية، ويشتغل على تفجير اللغة بالصورة والأسطورة والمكان.
قوّته الأساسية تكمن في وعيه العميق بعلاقة الشعر بالسلطة والزمن، وفي قدرته على تحويل التجربة السياسية والتاريخية إلى نسيج جمالي مأزوم، لكنه صادق.
إنه نص لا يواسي القارئ، بل يضعه مباشرًة في قلب الأسئلة الثقيلة: ماذا نفعل بزمنٍ لا يصلح للحياة؟
وهل يكفي الغدُ ليبرر دفن الحاضر؟
أَدفِنُ الحاضِرَ بِشَهوةِ الغَدْ
شعر : رياض الدليمي
...........
ذكرياتٌ مُجَعَدةٌ
لا تطاوع أسنانَ المِشطِ
كنسائم الصيفِ مشتعلة بالغضبْ
هي الأخرى غير قادرةٍ على بَسطِ الخصلاتِ
وحتى المرايا اِمتعضتْ من مرارتها
وسوادِ شَعرِ نَهارها
وحِدة قرونها
سَلالمُ اللحظةِ لا تَغريها
الحاضرُ مُحاصرُ في جُبِّ الاستفهامْ
يفشلُ كلَّ مرَّة أن يشربَ نخبَ الزيتون وعسل التمر
على مائدةٍ واحدةٍ مع باقي الذكريات
أَدفنُ الحاضرَ بشهوةِ الغدِ
وعتوِّ اللحظةِ المشتهاةْ
كلُّ شيء سَحيقْ
وبائدٍ
صهيلُ الفراغ موجعْ
وشراسةُ الصمت مخيفة
أُتوجُ الذكرى على بساطِ السُلطةِ
أَعزفُ النواحَ
وأَرملاتي يَتَشِحنَّ بسوادِ اللهفةِ
ودفائنِ السرائرِ غصة
تتلعثمُ فوق الصدورِ الموشومةِ بالممنوعاتِ
وقسوةِ السلطةِ
ما مِنْ شيءٍ إلا وأصبحَ ذكرى
وحنين ساذج بطعم الخيبة
خاتمُ السلطة وصيةٌ كُتبتْ بماءٍ ساخنٍ بَعدَ رعشةٍ خَجلةٍ
تدفنها أَرملاتي بالخاصِرةِ وأَسوارِ العتمةِ
النهارُ بلونِ الدمعِ
بطعمِ البرتقال
بمذاقِ حليبِ اللحظةِ
تعكسهُ المرايا
بِضجيجٍ وأصواتِ طبولٍ ودفوفْ
أَضنها معاركَ جنون هابيل وقابيل
وغربانٌ تزاحمتْ لِتُعَلِمَ طرقَ الدفنِ
بالوريدْ
وقد تكون معارك الازمنةِ
فقد تساوت في مهب الريح
وتجاعيد الوقت
اني أَراها ولا أَراها تتطاحنُ
في أَزمنةٍ غابرةٍ
وأَمكنةٍ مُلبدةٍ بالاوجاعِ
ولذائذِ التاريخِ المُشيَّدِ على ذيولِ اللحظةِ
هنا بين سهولِ نينوى
ونهودِ جمجمال
وأَقراطِ الحسكةِ
تُقتلُ القصائد
وتُرَملُ القوافي
وتُسبى العنونة
ويُخرمُ الايقاعُ برشاقةِ السيوفِ
وهي تدمي فمي
وتنغرزُ في ضلوعِ الشمسِ
ولا صراخ
ولا عويل
سوى أَنينَ الكرّد
وتَأَوهاتِ اليعاربة ِ
هنا الربُّ يفصلُ مابينَ المقتتلين َ
وأُمي تحتوي الغنائمَ وتُوسدني على جناحِ غرّابٍ
في هذا الثالوثِ المرّعبِ ثمة نهاياتْ
سَيشهدُ عيسى
كيف تُسفكُ الحروف
وتُشدُ رقاب الكَلامِ
سيحتاجُ مزيداً من اللفائفِ وسناراتٍ يُخيطُ بها جروح بياض الجوزِ
ستحضرينَ بزهوِ ظلالِ رموشكِ الزرق
وحصانكٍ الاسودِ
ستجدينَ قصاصةَ ورقٍ من شغافِ اللحظةِ
اِجمعيها مع ثمةِ ذكرياتٍ
واِكتنزيها في حقيبةِ الألمِ
ولاتنسي خواتيمَ القصيدةِ