الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الشماعية وأقصى الهامش

بواسطة azzaman

الشماعية وأقصى الهامش

فاطمة الثابت 


كان اسم الشماعية يتردد على مسامعي في طفولتي بوصفه مكانا غامضا، مقلقا يشير إلى الإقصاء أكثر مما يشير إلى العلاج. كنت أتخيلها فضاء بعيدا يُزج فيه أولئك الذين لا يشبهوننا، من يخرجون قليلاً عن النسق أو يتعثرون في عبور الحياة كما نريد لها أن تكون.
وحين كبرت وصادفت ذات يوم كتاب تاريخ الجنون لميشيل فوكو، وقرأت «العنبر رقم 6» لتشيخوف..
وأستوقفني الحوار الاهم في الرواية الذي دار بين الطبيب والمريض النفسي:
« أنا إنسان خلقني الله لكي أشعر ، أصرخ عندما أتألم ، أشعر بالتقزز من الدناءة ، كلما زادت حساسيتي، ارتفعت درجة إنسانيتي ،لا يوجد ما يسمى بتقبل المعاناة والألم وأن تكون راضياً على الدوام …أن تكف عن الإحساس يعني أن تكف عن الحياة .»
امراض عقلية
أدركت أن ما كنت أبحث عنه ليس مكانا بقدر ما هو سؤال. سؤال عن تلك المنطقة القصية من الوجود التي تتجمع فيها العقول التي اختارت  أو أُجبرت  على الانسحاب من المألوف. هناك حيث يصبح الهامش وطنا وتُترك الأرواح في رعاية النسيان أكثر مما تُترك في رعاية الطب. كنت أظن أن الشماعية مجرد مستشفى للأمراض العقلية، إلى أن كشفت لي الصور التي تم تداولها  معناها الحقيقي.
الصور لم تُريني جدراناً أو أسرة بيضاء أو أطباء. كشفت لي مجتمعا صغيرا مُستبعدا و عالما موازيا يضم أشخاصاً لم يكن ذنبهم أنهم مختلفون، بل أن المجتمع لم يمتلك القدرة ولا الرغبة في فهمهم. أدركت حينها أن الشماعية ليست مكانا لعلاج الجنون بقدر ما هي مرآة تكشف هشاشتنا الجماعية في التعامل مع الآخر.
من الشماعية تخرج الحكايات التي لا تُروى، حكايات من تم تهميشهم لا لخلل في عقولهم بل لخلل في نظرتنا إليهم. هناك تتجاور الوحدة مع أحلام منكسرة، وتتعانق براءة السلوك مع قسوة الحياة. نُسجت مصائر كثيرين منهم بخيوط الفقر ، العنف الأسري، انعدام الرعاية، والوصمة الاجتماعية أكثر مما نسجتها الاضطرابات النفسية نفسها.
وحين تأملت تلك الوجوه شعرت أن المسافة بين نحن و هم ليست إلا خطوة واحدة… خطوة قد يدفعنا إليها ظرف قاس خسارة مفاجئة، أو جرح لا يجد من يضمده. وربما لهذا كان فوكو يرى أن الجنون ليس حالة فردية، بل خطاب تصنعه السلطة والمجتمع؛ نصوغ من خلاله من يستحق البقاء في المركز ومن يجب دفعه نحو الهامش.
اليوم فقط فهمت معنى الشماعية:
ليست مكانا للمرض بل أرشيفاً لقصص بشرية جرى نفيها خارج اهتمامنا؛ مكاناً نتعلم منه كيف يتحول الاختلاف إلى وصمة، وكيف يصبح الهامش قرارا اجتماعيا أكثر منه مصيرا فرديا....
إن إعادة النظر في الشماعية ليست عودة إلى مؤسسة طبية بل عودة إلى ضمير ينبغي أن يسأل:
كم من الأشخاص دفعناهم نحن  بوعي أو بلا وعي  إلى حافة الحياة؟
وكم من عنبر رقم 6 نصنعه اليوم بأيدينا دون أن نشعر؟

 

 


مشاهدات 43
الكاتب فاطمة الثابت
أضيف 2025/12/06 - 2:41 PM
آخر تحديث 2025/12/07 - 7:48 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 230 الشهر 4759 الكلي 12788664
الوقت الآن
الأحد 2025/12/7 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير