الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الكشكول في سفر التصوف


الكشكول في سفر التصوف

نوري جاسم

 

الكشكول ذاك الوعاء الذي حمله الصوفي في دروبه المتشعبة، هو ليس مجرّد إناء من خشب أو معدن أو فضة، بل هو وعاء المعاني، وجرّة الروح، ومفتاح من مفاتيح العرفان، سارت به أقدام العارفين بين القرى والصحاري والجبال، وغاصوا به في بحار النفس والوجود، حتى صار رمزًا شامخًا في عمارة التصوف وعمق تجربته الروحية، إنه وعاء، نعم، لكنه لا يُملأ بالماء أو الطعام، بل بالحكمة، والسرّ، وبقايا دموع، وآثار سجود، ونفحات وردٍ ليليٍّ مناجٍ، وبقايا اللمسة الروحية التي تُنقل من قلب إلى قلب، كما تُنقل النار في الظلام لتنير الدرب للآخرين، والكشكول عند الصوفي العرفاني الصادق ليس شيئًا خارجيًّا فقط، بل هو امتداد للباطن وهو كقلبه الثاني، لا يحمل فيه إلا ما يعينه على السير إلى الله، ولقد نُقشت على جوانبه آيات من القرآن، وأسماء الأئمة من ال البيت المعصومين (عليهم السلام)، وأدعية تتوسل بالنور، وتستفتح أبواب الحقيقة، نُقش على بعضها قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ﴾ [الكهف: 79]، ليُشير أن الكشكول هو تلك السفينة التي تُقلّ الصوفي عبر بحر الحياة، يحمله الله فيها من ضجيج العالم إلى صمت الملكوت، ومن زيف الظاهر إلى صدق الباطن، ومن تعلق الدنيا إلى مقام "لا شيء معي إلا أنت يا الله". ولم يكن الكشكول مجرد حاوية للصدقة، ولا وِعاءً للطعام، فهذا المعنى سطحي جدًا، فكيف يُعقل أن تُرصّع بعض الكشاكيل بالفضة، وتُزخرف بالفن الإسلامي الراقي، وتُخَط عليها الأدعية المقدسة، ويُقال عنها إنها للخبز والماء؟ إنّ الصوفي، وإن كان زاهدًا، إلا أنه كان يرى أن للأشياء التي تُرافق رحلته رمزية كبرى، ولذلك، فإن الكشكول كان وعاءً للمسيرة كلها، وفيه ورد الصباح، ومسبحة الذكر، وبعض الحروف المكتوبة بخط اليد، وأزرار احتياطية لثوبه البسيط، وإبرةً وخيطًا لترقيع طريقه كلما انشقّ عليه الدرب، وربما بضع تمرات يواسي بها الجسد المكدود، وفي الطريقة العلية القادرية الكسنزانية، ظل الكشكول شاهدًا على هذا المسار، ولم يكن مجرد موروث، بل كان شاهدًا يوميًا على سلوك الصوفي، فقد حمله السالكون من قرية إلى أخرى، من ضريح إلى ضريح، من مقام إلى زاوية او تكية، وكانوا يُعلّقونه على أكتافهم لا زينة، بل كشاهد على التخفف من الدنيا، وعلى العهد بأنهم لا يملكون من الأرض إلا ما يسع الكشكول، وكما أن الكشكول يُحمَل، كان أيضًا يُورّث. فيه اللمسة، وفيه الأثر، وفيه البركة، وقد عرف التاريخ نماذج كثيرة من الكشاكيل، بعضها محفوظ في المتحف العراقي ضمن قاعاته الإسلامية، ومنها ما يعود إلى العصر التيموري، ومنها ما ازدهر في العصر القادري والرفاعي والكسنزاني، وكلها متفقة في الجوهر وإن اختلفت في الشكل، فهي ليست مجرّد أدوات بل رسائل فنية، زخرفتها روحية، وخطوطها أسرار. بعضها على هيئة قارب، وبعضها كأس، وبعضها على هيئة حرف "نون"، رمز العلم كما في قوله تعالى: ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ [القلم: 1]، وكأنما الكشكول هو بداية السطر في سفر الحقيقة، وبداية البوح في عالم لا يُقرأ إلا بالقلب، أما الزخارف، فهي ليست ترفًا بصريًا، بل أبواب من الفهم، إذ يحمل بعضها أدعية تتوسل بأهل البيت (عليهم السلام)، وآيات عن الفناء والبقاء، وعبارات من العشق الإلهي، فيجمع الكشكول بين صورة الزهد وقوة العشق، بين فقر المادة وغنى المعنى، وما أكثر ما وُجدت كشاكيل في العتبات المقدسة، وقد وضعها أصحابها نذورًا بعد أن سكنوا فيها أعمارًا من الذكر والبكاء والسفر، حتى صارت بمثابة سيرة صوفية صامتة، تسرد تاريخًا لا يُكتب بالحبر، بل يُقرأ بالبصيرة، ولعلّ أجمل ما في الكشكول هو أنه صورةٌ خارجية لحالة داخلية، هو مرآةٌ للباطن، فكما أن الصوفي لا يدخل إلى الحضرة الإلهية بثياب فاخرة بل بقلب خاشع، كذلك الكشكول لا يحمل من متاع الدنيا إلا ما يعين على السير. هو مزيج من الضرورة والعشق، من الوظيفة والرمز، من القليل الذي يغني عن الكثير، ومن الظاهر البسيط الذي يكشف عن باطنٍ لا يُحدّ، ولذلك، فالكشكول في نهاية الأمر ليس أداة، بل هو مقام. مقام التخفف، مقام الأمانة، مقام الإشارة، وهو، كما وصفه بعض العارفين "صندوق السر، وسجل الرحلة، ودليل الزهد". فيه ما يُلقى من السماء إلى القلب، وما يُهتدى به في العتمة، وما يُورَّث كبركة لمن جاء بعدك، وليس غريبًا أن يختار الصوفي أن يُدفن معه كشكوله، أو أن يوصي به إلى أحد مريديه، لأنه يعلم أن الكشكول قد تشرب شيئًا من روحه، وأن فيه أثمن ما جمعه في حياته: صدق النية، وهكذا، فإن الكشكول، في رحلته مع التصوف، يظل شاهدًا على أن السالك لا يحتاج الكثير، بل يحتاج إلى وعاء يضع فيه النور، لا الظلام، وإلى رفيق لا يُثقل خطاه، بل يُضيء دربه،

فيا من تبحث عن سر الطريق، لا تنظر إلى الكشكول بعين المادة، بل بعين القلب... فهو البحر وهو السفينة، وهو النداء الصامت في سفر لا ينتهي إلا عند الله......

اللهم صل على سيدنا محمد الوصف والوحي والرسالة والحكمة، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرًا...

 


مشاهدات 84
الكاتب نوري جاسم
أضيف 2025/07/19 - 3:12 PM
آخر تحديث 2025/07/20 - 8:29 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 277 الشهر 12685 الكلي 11166297
الوقت الآن
الأحد 2025/7/20 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير