الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الشواهد الدينية..  جسور للهوية الوطنية أم جدران للانقسام؟

بواسطة azzaman

الشواهد الدينية..  جسور للهوية الوطنية أم جدران للانقسام؟

منتصر صباح الحسناوي

 

في العراق يبدو أن كل شيء نُقِش ليبقى. الزقورات والمعابد والأسوار والمآذن والقباب والصُلبان والمقامات والأديرة، جميعها حجارة حيّة تحكي عن أجيال مرّت من هنا وتركت أثرها في الجغرافيا والوعي معاً.

هذه الشواهد نصوص معمارية متراكمة تروي حكاية الهوية الوطنية إذ كانت تتشكل طبقةً بعد طبقة عبر آلاف السنين.

 أقدمُ هذه الشواهد ترتفع في الجنوب، إذ تقف زقورة أور شاهدةً على أن العراقيين عرفوا قداسة المكان منذ فجر التاريخ، وأقاموا للسماء سلّماً على الأرض.

وفي “نيبور” تظهر كعبة الحضارات القديمة، بيت إنليل، مركزاً للديانة السومرية، في بابل تروي بوابة عشتار وأطلال معبد مردوخ كيف امتلأت المدينة بالمعاني والرموز، وكيف تحوّل المكان إلى مركزٍ للحضارة والعبادة معاً، فيما تروي نقوشُ نينوى وأطلال الحضر قصةَ الآشوريين والعرب قبل الإسلام.

هذه المعالم تمثل جذوراً حقيقية لهوية لم تتوقف عن التشكل ومع كل جيل كانت تضيف طبقةً جديدة.

بعد تلك العصور جاءت الديانات السماوية فتركت أيضاً أثرها على المكان، بدءاً من ضفاف دجلة والفرات تنتصب منادي الصابئة المندائيين إذ يقدسون الماء ويحوّلونه إلى معبد حيّ، وعلى جبال سنجار يشعُّ معبد لالِش مركز الديانة الإيزيدية، يحتفظ بنوره ورموزه. إلى مرقد حزقيال ذو الكفل لتنتشر بعد ذلك الكنائس والأديرة المسيحية العراقية بدءاً من بغداد منذ القرن الأول الميلادي متمثلة باطلال كنيسة كوخي إلى باقي جغرافية العراق كدير الأقيصر وكنيسة مار توما إلى دير مار متي ودير الربان هرمز، ومن كنيسة سيدة النجاة إلى دير مار بهنام. كلُّ واحدةٍ تمثل وثيقةً شاخصة على بقاء المسيحيين في هذه الأرض منذ بدايات رسالتهم حتى اليوم.

ثم جاءت الجوامع والمقامات الإسلامية فشكّلت طبقةً جديدةً في الذاكرة، ففي النجف ترتفع قبة الإمام علي بينما يظل مسجدا الكوفة والسهلة علامةً ماثلةً على خريطة التاريخ. وفي كربلاء تتراءى قبتا الإمامين الحسين والعباس كهويةٍ عابرةٍ للحدود الجغرافية إلى مكامن الروح.

 في بغداد، وفي الكاظمية، يلتقي الزائر بمقامي الجوادين، ويتجاور جامع الإمام أبي حنيفة مع مقام الشيخ عبد القادر الجيلاني إذ يلتقي الفقه مع التصوف في قلب المدينة. وفي سامراء تلوح قبتا الإمامين العسكريين وما يجاورهما من المآذن الملوية. أما الموصل فقد استعادت حضور الجامع النوري إلى جانب مقام النبي يونس ومقام النبي شيت ومقام النبي جرجيس، إذ تلتقي على ترابها آثار الأنبياء مع مقامات الأولياء.

هذا التتابع في الشواهد مع الكثير مما لا يسع المقال لذكرها ليس فوضى معمارية، إنما طبقات من الهوية تتراكم لتصنع وطناً، كل واحدة منها تمنح جماعة نصيباً من الأرض، وكل واحدة منها تفتح باباً للعراقي كي يرى نفسه أوسع من طائفته أو مذهبه. حين يتأمل العراقي هذه الشواهد مجتمعة، يفهم أن هويته موحّدة بهذا التنوع العميق الذي يربط الزقورة بالمنادي، والكنيسة بالمقام، والدير بالجامع، والمعبد بالمرقد.

المشكلة تبدأ حين يُساء النظر إلى هذه الشواهد فتُحتكر دلالتها لجماعة واحدة، أو تُستعمل كحدود لعزل الآخرين. عندها تتحول من جسور تربط المختلفين إلى جدران تفصل بينهم. الفارق دائماً في الوعي لا في الحجر. العراقي الذي يرى مرقد الإمام علي لنفسه فقط يغفل عن أنه معلم وطني أيضاً، ومن يظن أن كنيسة مار توما لا تعنيه يجهل أن جزءاً منه معلق في جرسها. حتى الزقورات إذ يتعامل معها البعض كأحجار غريبة يتنكرون لجزء عميق من ذاكرتهم.

إن هذه الشواهد جميعها، إذا قرأها العراقي بعراقته، تصبح جسوراً تمتد به إلى ذاته وإلى شريكه المختلف. وإن ضاقت رؤيته تتحول إلى جدران تمنعه من عبور اختلافاته. هنا تحديداً يكمن دور الوعي الوطني: أن يعيد تعريف هذه الرموز في المخيلة الجمعية، ويعيد تقديمها للأجيال بوصفها ميراثاً مشتركاً لا يخص جماعة بعينها. وحين يُسأل العراقي: هل هذه الشواهد تعزز الهوية الوطنية أم تقوّضها؟ عندها يكون الجواب معلقاً في وعيه. نحن هنا، وهناك أيضاً مشتركات تجمع ولا تفرّق.

 


مشاهدات 93
الكاتب منتصر صباح الحسناوي
أضيف 2025/07/18 - 11:40 PM
آخر تحديث 2025/07/20 - 8:31 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 289 الشهر 12697 الكلي 11166309
الوقت الآن
الأحد 2025/7/20 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير